عن انهيار الأنظمة الصحية وأنظمة أخرى

عن انهيار الأنظمة الصحية وأنظمة أخرى

14 مارس 2020
+ الخط -
"لا أقول إنهم لم يوضعوا على أجهزة التنفس، بل أقول لم يُفحصوا أصلا، ولا يتوجه لهم الأطباء حين يموتون". .. جاءت هذه الصورة الكابوسية في تغريدة للطبيب الإيطالي، جاسون فان سكور، ضمن مشاهد عديدة مروعة لملامح ما يسمّى انهيار النظام الصحي، وهي ظاهرة محل اهتمام واسع في الأوساط العالمية. 
على الرغم من أن أعداد الوفيات بمرض فيروس كورونا تبدو محدودة، فهي لا تتجاوز 2% من المصابين، لكن أرقاما عديدة أخرى هي التي تسبب هذا الانهيار. نحو 17% من الحالات تحتاج تدخلا طبيا، ونحو 5% من الحالات تصل إلى مرحلةٍ حرجةٍ تتطلب العناية المركّزة والتنفس الصناعي.
رقم مرعب آخر هو سرعة انتشار المرض، فالعدد يتضاعف كل ثلاثة إلى ستة أيام، كما أنه يستغرق نحو 11 إلى 14 يوماً في فترة حضانة من دون أي أعراض، ما ينتج موجات انفجار مفاجئ في أعداد المصابين.
في شمال إيطاليا بعد الانفجار أتى الانهيار. آلاف المرضى يتدفقون، فتمتلئ كل غرف العناية المركزة، ثم كل المستشفيات، ثم كل ما يمكن تحويله مستشفى، تمتلئ كل أجهزة التنفس الصناعي، ثم كل أقنعة الأوكسجين. تعمل الطواقم الطبية 24 ساعة، ثم تبدأ بدورها في التساقط، سواء من فرط الإجهاد أو بانتقال العدوى إليها أيضاً، وهكذا تقفز معدلات الوفيات، لأن المرضى يموتون على أبواب المستشفيات.
حكى طبيب إيطالي أن زملاءه يبكون بينما يتخذون قرارات اختيار حيوات البشر، كما في أوقات الحروب. طبقوا بروتوكولاتٍ تستبعد من العلاج فورياً كل من يزيد عمره عن 65 عاماً، أو أصحاب الأعمار الأصغر ممن لديهم حالة مرضية مصاحبة. يتزامن ذلك مع العجز التام عن التعامل مع أي حالاتٍ طارئةٍ أخرى، حين يأتي مصابون في حادث سيارة على سبيل المثال لن يجدوا أماكن في المستشفيات.
الانهيار الطبي يصاحبه انهيار اقتصادي بالأساسيات، لا الرفاهيات. عمال المصانع والمزارع وسائقو سيارات النقل كلها فئاتٌ تتعرّض للإصابة، أو تهرب خوفا، فتضطرب "سلاسل التوريد" بشدة.
حدث كل هذا الكابوس في أقل من شهر، فأول حالة إيطالية مسجّلة كانت في 20 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، وحتى مطلع الشهر الجاري (مارس/ آذار) كانت في البلاد بضع حالات لا أكثر، والمسؤولون يتفاخرون بنجاحهم. .. تجاوزت الأرقام الرسمية في إيطاليا 15 ألف حالة مؤكدة، وألف حالة وفاة، لكن الأطباء يقولون إن الحالات أكثر، فالتحاليل لا تكاد تلاحق دفقا بلا نهاية من البلاغات.
انهيار الأنظمة الصحية يحمل انهيارات أخرى. الحكومة الإيطالية الحالية تترنح بعد تحميلها مسؤولية التهاون في بداية الأزمة. الرئيس الأميركي دونالد ترامب بدوره يواجه تحدياً مهماً قبل الانتخابات الرئاسية، وقد تسرّع بالتهوين من شأن المرض ومقارنته بالأنفلونزا التي قال إنها قتلت 37 ألف أميركي. وعلى الفور تم الرد عليه بأن معدل الوفيات يصل إلى 20 – 30 ضعفا عن الأنفلونزا، وأنه بمقارنة معدل الانتشار، فإن الرقم الإجمالي نهاية العام قد يتجاوز ما ذكره.
حتى هذه اللحظة، تبدو الأوضاع في بلادنا العربية تحت السيطرة، من الوارد أن يكون ذلك مرتبطاً بتأثير درجات الحرارة، على الرغم من أن منظمة الصحة العالمية قد أكدت أن هذا الربط ما زال غير مؤكد علمياً، ومن الوارد أيضاً أن القاتل الصامت ينتشر، وسنشهد الانفجار بعد أسابيع.
لا أتفق مع من يعتقد أن حكوماتنا هي التي تخفي الواقع الكارثي، فمشهد تدفق آلاف المرضى العاجزين عن التنفس على المستشفيات يستحيل أن تُخفيه أي حكومة. لا يمكنك إخفاء صوت انفجار، ولكن في المقابل فإن محاولة تأجيل المواجهة، أو التهوين من المخاطر، أو العجز عن إدراكها بسبب نقص آليات التشخيص، كلها عوامل قد تؤدي إلى تأخير مفاجأة الحكومات أنفسها باللحظة الانفجارية، وهو ما لا نرجوه أبداً لبلادنا، لكنه احتمالٌ يستحق أن يُدرس وتُتُخذ الإجراءات الوقائية ذات الكلفة الأقل مبكّرا لمنع الانهيار، وذلك ينطبق على الأنظمة الطبية وغير الطبية أيضا.
حسب مقال نشره المختصان بالإحصاء الطبي، جيرمي هاوارد وراشيل توماس، "حين يحل الوقت الذي تبدأ فيه بملاحظة أن أسرة المستشفيات ممتلئة، فإن العدوى تكون قد وصلت في الواقع بالفعل إلى مستوى يفوق خمسة إلى عشرة أضعاف قدرة التعامل الطبي معها".