الظاهرة الاستبدادية وعسكرة الأمم

الظاهرة الاستبدادية وعسكرة الأمم

13 مارس 2020
+ الخط -
معادلة السلطة الحقيقية التي تؤكدها النظم العادلة والرشيدة؛ النظم الفاعلة والسديدة؛ أنه "كلما زادت السلطة زادت المسؤولية؛ وكلما زادت المسؤولية عظمت المساءلة وامتدت"، فـ "من الأمور المقرّرة طبيعةً وتاريخياً أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكّن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبّس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكّن فيه لا تتركه، وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمة، والجنود المنظّمة، وهما أكبر مصائب الأمم وأهم معايب الإنسانية، وقد تخلصت الأمم المتمدّنة، نوعا ما، من الجهالة، ولكنها بليت بشدة الجندية الجبرية العمومية؛ تلك الشدّة التي جعلتها أشقى حياة من الأمم الجاهلة، وألصق عارا بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد، حتى ربما يصح أن يقال إن مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشيطان فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكن أن ينتقم! نعم، إذا دامت هذه الجندية التي مضى عليها نحو قرنين إلى قرن آخر أيضا تنهك تجلد الأمم، وتجعلها تسقط دفعة واحدة". 
هكذا يقرّر عبد الرحمن الكواكبي في عبارة جامعة؛ وقد يتعجّب بعضهم من حديثه حول الجند والجندية، ولكنه حديث عميق لا يتحدّث فيه عن اتخاذ الأمم جيوشا تحميها ومؤسساتٍ تبنيها؛ فإنها من الأعمدة التي تقام عليها الأمم لحماية أمنها قبل أي عدو طامعٍ أو غاصبٍ يحاول الاعتداء على الأمة وحياضها، أمنها وأمانها، هذه المؤسسات من ضرورات الدول وبناء مؤسساتها. وفي حقيقة الأمر، فإن الكواكبي في حالة من الاستشراف العميق للمؤسسة العسكرية، حينما تنحرف بأدوارها، وتتجه بأسلحتها لتجعلها في خدمة استبداد العسكر أو المستبد الفرعوني، حينما تكون في خدمته، وتمثل ظهيرا لطغيانه.
مبكرا، نبه الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" إلى أنه "يلزم أولا تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة لها بحيث 
يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها". لم ينشغل الكواكبي كثيرا بالمنظومة الثقافية التي تنتج المستبد، على أهمية ذلك وقيمته، بل توجه ناقدا إلى هذه الآلة الاستبدادية، وهي تفعل فعلها العجيب في امتهان المحكومين وهوانهم وإهانتهم ضمن خطة الاستبداد بتحويلهم إلى توطين ذلك. ووفق تشييع عقلية القطيع، على عموم الناس، على امتدادهم، أن يوطنوا أنفسهم على أن يسمعوا فيطيعوا، وأن يمتثلوا لأوامر المستبد فيستعبدوا؛ وحسب الكواكبي "يتحكّم في شؤون الناس بإرادته، لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس، يسدّها عن النطق بالحق والتّداعي لمطالبته"؛ إنها حالٌ من العبودية المقيتة، وكأنه يشير إلى المعاني نفسها عن "العبودية المختارة"، كما أشار إليها المفكر الفرنسي إيتن لابواسيه ".. كيف أمكن هذا العدد من الناس؛ من البلدان؛ من المدن؛ من الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه؛ ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه؛ ولا كان يستطيع إنزال الشرّ بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته".
وكما تستند "الفرعونية السياسية" إلى "القارونية المالية"، فإنها تستند كذلك إلى قوة الجند والجندية. وفي الحديث عن دور العسكر والعسكرة، والجند والجندية، أبدع الكواكبي في تشخيص هذا الداء العضال، فكتب "أما الجندية، فإنها تفسد أخلاق الأمة، حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال، وتميت النشاط وفكرة الاستقلال، وإذا كان الشيطان هو مخترع الجندية، فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أن ينتقم". يشير الكواكبي، إذن، إلى الجندية كحالة والعسكرة التي تصيب الأمم والمجتمعات، فتعمّم من أحوالها ما يشكل خطرا على الحياة المدنية والمجتمعات المدنية والفضائل المتعلقة بكل منها؛ وهي على النقيض من أخلاق العسكرة الفجّة القائمة التي تفسد أخلاق الأمة وقيمها المدنية المرتبطة بأحوال الاجتماع والمجتمع فيها، فحال الشراسة غير أحوال الألفة الاجتماعية ومقتضيات الاجتماع المدني، وحال الطاعة العمياء التي تسود مجتمعات العسكر غير حال الرقابة والمساءلة والحساب، وحال الاتكال والتبعية غير حال الإيجابية الاجتماعية والاستقلال في الفعل والفاعلية في بناء المجتمعات والتكوينات السياسية. هذا الأمر المعسكر إنما يشكل أكبر سند لعمليات الاستبداد، وأخطر انتقام من المجتمع وأحواله وعلاقاته المدنية، لأنها تسير تلك العلاقات في غير وجهتها، وتؤسس لحالة الاستبداد والتمكين لها. وكل ذلك يقوم بأدوار سلبية".. تكلف الأمة الإنفاق الذي لا يطاق، وكل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم".
وكأنه يتحدّث عن عسكرة المجتمعات كأحد أهم أشكال الاستبداد إنه يشير إلى جهالة الشعوب التي تشكل قابليات للاستبداد و"الجندية" التي تشكل أخطر آليات الاستبداد "شدة الجندية الجبرية 
العمومية"، اجتماع هذين الأمرين تمكينٌ لحال الاستبداد. إنه يقرأ الانقلاب حينما تتحوّل الجندية (العسكرة) في استخدام قوتها وتزيف أدوارها وتمد ظلالها على كامل مساحات المجتمع وساحاته، وكأنه يشير، من كتابه المفتوح، إلى استبداد الانقلاب والاستبداد الانقلابي؛ وهو يدقّ نواقيس خطر امتداد الاستبداد الذي يمدّ أذرع خطره الداهم إلى حيث يمكنه الوصول، فينشر الجهل ويعمم ثقافة القتل، حتى ترى البشرية "التي قتل الاستبداد فيها كلَّ الأميال الشريفة العالية فأبعدها عن الأنس والإنسانية، حتّى صار الفلاح التعيس منها يؤخذ للجندية وهو يبكي، فلا يكاد يلبس كمَّ السترة العسكرية إلا ويتلبَّس بشرِّ الأخلاق، فيتنمّر على أمه وأبيه، ويتمرّد على أهل قريته وذويه، ويكظُّ أسنانه عطشًا للدماء لا يميّز بين أخٍ وعدو".. وصف عميق لأداء القوى الغاشمة الباطشة التي لا تعرف إلا قوة البطش، واستخدام أقصى أشكال العنف وأقساها، ممتزجة بالجهالة الفاضحة.
من الكلمات والتعبيرات التي استخدمها الكواكبي "جيوش وجنود الاستبداد"، وكأنه أراد أن يعدّد كل مصادر القوة الطاغية الخادمة للحالة الاستبدادية وتمكينها وقوة السلاح في مقدمتها، ولكن قوى أخرى تشكل ظهيرا للعسكرة والاستبداد في الدولة والمجتمع؛ وعلى حين ظن بعضهم (ولا يزالون يظنون) أن الاستبداد مركوز فقط في السلطة السياسية، نبّه الكواكبي إلى القوى العديدة الداعمة للاستبداد السياسي، ومنها: "قوة الإرهاب بالعظمة وقوة الجند وقوة المال وقوة الألفة على القسوة وقوة رجال الدين وقوة أهل الثروات وقوة الأنصار من الأجانب"؛.. ويضيف الكواكبي: "إن المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أو حب الوطن أو تحصيل منافع عامة أو الدفاع عن الاستقلال. والحقيقة في بطلان كل هذه الدواعي الفخيمة التي ما هي إلا تخيل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها حتى إنه لا يستثنى منها الدفاع عن الاستقلال، لأنه ما الفرق على أمة مأسورة لزيد أن يأسرها عمر؟ وما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكًا كان أو غاصباً".
"الحكومة المستبدّة تكون طبعاً مستبدّة في كل فروعها من المستبدّ الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كلُّ صنفٍ إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أيٍّ كان، ولو بشراً أو خنازير، من آبائهم أو أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبدُّ ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقلُّ حسب شدة الاستبداد وخفّته، فكلما كان المستبدُّ حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجّدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقّة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً"؛ وتشريح طبقة "المتمجدين" يستحق توقفا خاصا، ودرسا أوضح لمصطلح نحته الكواكبي بدقته وعمقه.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".