البابا فرنسيس وسورية "الشهيدة الجريحة"

البابا فرنسيس وسورية "الشهيدة الجريحة"

13 مارس 2020
+ الخط -
صلّى بابا الفاتيكان، فرنسيس، يوم الأوّل من مارس/ آذار الجاري، لأجل سورية "الحبيبة الشهيدة" كما يصفها. وعبّر عن أسفه وأساه لأجل النازحين الذين يبحثون عن مأوى، في إشارة منه إلى أكبر موجة نزوح في الحرب السورية في إدلب خلال الشهور الثلاثة الماضية، وقال للمصلّين في ميدان بطرس بالفاتيكان: "دعونا نصلّي لأجلهم". 
لم يكتف البابا بالصلاة لأجل سورية مع أتباعه، بل قال كلمة حق موجهة إلى المعتدين في الحرب، أي وجّه خطابه مباشرة إلى بوتين وبشّار الأسد. وكان فور أن تقلّد منصب البابوية في مارس/ آذار 2013 ذكَر الشرق الأوسط في كلمته في صلاة عيد الفصح التي صلاّها بعد أسبوعين من جلوسه على كرسي البابوية، ودعا له بالسلام، وخصّ بالدعوة "العزيزة سورية... لأجل شعبها الذي مزقه الصراع" وتساءل: "كم من الدم سيراق أكثر،.. قبل أن يُتوّصل إلى حل سياسي للأزمة؟" ولكن الدم لم يتوقف عن النزف، على عكس ما تمنّى البابا، فخاطب "فلاديمير بوتين" رئيس روسيا مباشرة في خطابٍ له في 4 سبتمبر/ أيلول 2013 بمناسبة قمة العشرين، وقال "من المؤسف له أنّه منذ بداية الصراع في سورية، فإنّ مصالح طرف واحد فقط هي التي سادت، بل وحالت دون البحث عن حلّ كان من الممكن أن يحول دون حدوث مجزرة لا معنى لها والتي تتجلّى للعيان الآن". ووجه خطابه إلى القادة السياسيّين في قمة العشرين، وناشدهم "مناشدة قلبية" لتجاوز الصراع، ووضع السعي الخائب للحل العسكري جانبًا". وحثّهم على السعي إلى إيجاد حل سياسي سلمي عبر الحوار والتفاوض. ولكنّ شيئًا من هذا لم يحدث. بل استمر قتل المدنيين وتهجيرهم في موجات أكبر بكثير من أعوام 2011 – 2013، ولم يحدث سوى ما ناشد البابا الحيلولة دون وقوعه.
ولكنّ البابا فرنسيس لم يتخلّ مطلقًا عن سورية في أيٍ سنةٍ من سنواتها العجاف؛ فذكرها لملك 
الأردن، عبدالله الثاني، في زيارته الشرق الأوسط والأماكن المقدسة في مايو/ أيار 2014، وأثنى على جهود الأردن في استيعاب اللاجئين السوريين، وحثّها على المساهمة في إيجاد حل سلمي للصراع. وعلى الرغم من انصراف الاهتمام في 2015 إلى هجمات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، إلاّ أنّ البابا، بجانب تأييده الحرب على الإرهاب، لم ينسَ الصلاة لسورية في حديثه المعتاد في عيد الفصح في إبريل/ نيسان المعنون "لمدينة روما وللعالم". ومع خفوت صوت البابا فرنسيس تجاه سورية في عامي 2014 – 2015، ربما بسبب هجمات "داعش" والحرب على الإرهاب، إلاّ أنّه علا بشدة، في نهاية عام 2016، في أثناء جحيم قصف حلب. وفي خطوةٍ غير معتادةٍ من الفاتيكان، سلّم الكاردينال ماريو زيناري، مبعوث الفاتيكان إلى سورية، رسالةً باليد من البابا فرنسيس إلى بشار الأسد، يناشده بضمان احترام القانون الإنساني الدولي وحماية المدنيين وضمان وصولهم إلى المساعدات الإنسانية. كما ناشد، في خطابه الرئيس والمجتمع الدولي، لإنهاء العنف وشجب كلّ أنواع التطرّف والإرهاب في أيّ صورة ظهر به.
وفي عام 2017 الذي شهد موجات لجوء هائلة، ناشد البابا الدول الأوروبية لقبول اللاجئين والتضامن معهم في كل مراحل لجوئهم، بدايةً من التهجير، وخلال الرحلة ثم الوصول ومن ثَمّ العودة. كما لم ينس الدعاء للشرق الأوسط بالسلام، وخصوصا سورية في عيد الفصح.
وفي أثناء قصف الغوطة الشرقية في النصف الأول من عام 2018، ذكر البابا فرنسيس الغوطة الشرقية في كلمته في ميدان القديس بطرس وقال إنّ سورية أضحت "شهيدة" بالهجمات المستمرة التي تقتل المدنيين في الغوطة الشرقية، ونادى بالوقف الفوري للعنف، وضمان الوصول إلى المساعدات الإنسانية. وقال: "في هذه الأيام، شُغِلتُ بسورية الحبيبة الشهيدة"، مشيرًا إلى أنّ هناك الآلاف من ضحايا العنف المدنيين الذي لم يستثن حتى المستشفيات. وناشد البابا في كل مناسبة سانحة بالسلام في سورية.
وفي 22 يوليو/ تموز 2019، كتب البابا فرنسيس إلى الرئيس السوري يناشده حماية المدنيين والحفاظ على البنية التحتية، مؤكدًا أنّه يتابع في قلق وخوف المصيرَ المأساوي للمدنيين، 
وخصوصا الأطفال العالقين في القتال الدموي، كما عبّر عن قلقه بشأن السجناء السياسيين الذين لا يمكن تجاهل أوضاعهم الإنسانية، والذين حُبسوا اعتباطيًا في سجونٍ غير رسمية، وفي أماكن غير معلومة، وأكّد أنّه يجب أن تسود المصالحة على الفرقة والكراهية. وقال بصراحةٍ إن لديه عدة مطالبات إنسانية: حماية الحياة المدنية وإيقاف الكارثة الإنسانية في إدلب، وعمل مبادرات محدّدة لعودة سالمة للنازحين، وإطلاق سراح الموقوفين وإعلام العائلات بمصير أبنائهم. هذا كله بالإضافة إلى نداء متجدد لإعادة الحوار والمفاوضات مع تدخل المجتمع الدولي. وتوالت مناشدات البابا التي لم تتوقف لأجل سورية، كان جديدها في صلاة الأحد، الأوّل من مارس/ آذار الحالي، حين عبر عن حزنه الشديد لأجل النازحين الذين نُبذوا بسبب الحرب في إدلب.
تشهد نظرة إلى خطابات البابا فرنسيس عن سورية منذ 2013 بأنّ كلمة عدل يُمكن أن تُقال، وكلمة حق يمكن أن يُصدَع بها في حرب إبادة لم تُرِد قوى العالم الكبرى إيقافها. يعترف البابا بحقيقة ما يحدث، فهناك "مجزرة تتكشف للعيان"، كما وصفها في خطابه إلى بوتين عام 2013، راقبها وأقرّ بها فور تقلده منصب البابوية. كما وجه خطابه إلى الفاعلين الرئيسيين المسؤولين عن حدوث المجزرة والمتسببين بها، من دون أن يوجّه لومه للثوّار أو للمدنيين في مناطقهم، وهو أمر عجز عنه مسؤولون كثيرون. وستظل هذه الخطابات العادلة للبابا فرنسيس، والمتحيزة للحق، كلمات شاهدة على حقيقة المجزرة والدياسبورا السوريتين، وستُكتَب بماءٍ من ذهب في صحيفة الحق والشجاعة في سنين الحرب العجاف.

دلالات

4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
خديجة جعفر

كاتبة وباحثة مصرية، ماجستير في الفلسفة من الجامعة الأميركية في القاهرة.

خديجة جعفر