الإرهاب والسياسة في تونس

الإرهاب والسياسة في تونس

13 مارس 2020
+ الخط -
الإرهاب والسياسة مصطلحان حاضران بشكل لافت للانتباه في السياق التداولي التونسي قبل الثورة وبعدها. والإرهاب لغةً من "رهب"، ومعناه خاف وفزع ورُعِب، وأرهبه أي أخافه وأفزعه. وهو، بحسب تعريفات اصطلاحية قانونية متعدّدة، أيّ عمل أو فعل عنيف متعمّد، يُلحق الضرر بالفرد أو المجموعة، ويُفسد حقّهم في الأمن والاستقرار في بلد ما. ويروم الفاعل الإرهابي من خلال سلوكه الإجرامي انتهاك المنظومة القانونية السائدة، وبثّ التوتر والخوف والفُرقة بين الناس. ويُحتمل أن يكون هدفه الاحتجاج على سياساتٍ معيّنةٍ أو الرغبة في تغيير نظام حاكم بالقوّة أو الإساءة لجماعة عرقية، أو دينيّة أو أيديولوجيّة معيّنة. والسياسة من ساس، يسوس النّاس تحمّل تكليف رعايتهم وإدارة شؤونهم. وهي في العلوم السياسية فنّ توزيع النفوذ والقوّة والموارد والثروة داخل جماعة ما، أو دولة ما، وفق ضوابط مخصوصة. والسياسة إلى ذلك تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وضمان سيادة الدولة ووحدتها واستمرارها، وتنفيذ قراراتها، وتطوير جهودها في تحسين أحوال النّاس، وتطوير معاشهم وتلبية مطالبهم المشروعة. ويفترض في السائس والمتسيّس (المشغول بالسياسة)، حاكما أو محكوما، مواليا أو معارضا، متحزّبا أو غير متحزّب، أن يتحلّى بقدر من المسؤولية، والرصانة والكياسة، وأن يكون ميّالا إلى تقديم المصلحة العامّة والتشبّث بعُرى الوحدة الوطنية، خصوصا عندما تواجه البلاد تحدّيا خطيرا في حجم التهديد الإرهابي. والمتابع للشأن التونسي يتبيّن أنّ ما تسمّى النخب السياسية، قبل الثورة وبعدها، كثيرا ما وظّفت الحدث الإرهابي لتحقيق أغراض سياسوية، حزبية، أو شخصيّة ضيّقة. ولذلك تجلّيات عدّة. 
شهدت تونس قبل الثورة عددا معتبرا من العمليّات الإرهابية، اجتهد النظام الحاكم في التكتّم على 
معظمها ليظهر الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، في صورة الرّجل القوي، المسيطر على الوضع الأمني، والقادر على قيادة البلاد، وكذا لتلافي الآثار الاقتصادية الناجمة عن الإعلان عن فشل أجهزة الدولة في التصدّي لاختراقات إرهابية، غير أنّ النظام الاستبدادي لم يتمكّن من التعتيم على عمليّاتٍ إرهابيةٍ دامية، بعد أن تبنّتها جماعاتٌ متشدّدة، وتناقلت وقوعها وسائل إعلام ومراكز بحثية موثوقة في الخارج. من ذلك مقتل سبعة أعوان من الحرس على الحدود مع الجزائر (11فبراير/ شباط 1995) على يد عناصر من الجماعة الإسلامية المسلّحة، وتفجير كنيس الغريبة بجربة (11إبريل/ نيسان 2002) الذي خلّف مصرع 19شخصًا، بينهم 14 ألمانيًا، وفرنسيّان وثلاثة تونسيين، وجرح 26 ألمانيا آخرين. وروّجت السلطات ووسائل إعلام النظام، في البداية، أنّ الأمر مجرد حادث سير، لكن مشاركة الأجهزة الاستخبارية والقضائية الألمانية في التحقيقات أثبتت أن الهجوم كان إرهابيا متعمّدا، نفّذه نزار نوار (24 سنة)، وتبنّاه تنظيم القاعدة لاحقا. وفي شتاء 2006/2007 شهدت مدينة سليمان مواجهاتٍ داميةً بين القوّات الأمنية والعسكرية ومجموعة أسد بن الفرات المتشدّدة، وكانت حصيلتها قتل عنصرين من الأمن والجيش الوطني، و12 مسلّحا، واعتقال 15 آخرين. وفي الغالب، برّر المسلّحون أعمالهم الإرهابية باستحضار عناوين سياسية، من قبيل الاحتجاج على حيف النظام لاحتكاره السلطة وهيمنته على المجال العام، ولتضييقه على الحرّيات الدينية (منع الحجاب، إرسال اللحى، تعقّب المواظبين على صلاة الفجر من الشباب...)، ولفرضه علمنةً قسريةً على الناس، ولمحاولته فصل البلاد عن امتدادها الإسلامي من وجهة نظرهم. وفي المقابل، استثمر النظام السلطوي في الأحداث الإرهابية سياسيّا، فوظّفها لتبرير حكمه البلاد بقبضة أمنية حديدية، ولشرعنة قمعه الحقوقيين والمعارضين السياسيين عموما، والإسلاميين خصوصا، بتعلّة مكافحة الإرهاب. وركب النظام الشمولي هذه الحجّة، لتخويف النّاس من الدمقرطة والتغيير السياسي والتداول على السلطة، بحجّة أنّ ذلك سيؤدّي إلى صعود المتشدّدين إلى سدّة الحكم. لكنّ النّاس ملّوا سماع تلك الأسطوانة المشروخة، فانفضّوا من حول المستبدّ وحزبه الحاكم، وثاروا عليه احتجاجا على فساده المستفحل وثرائه الفاحش، وعلى سياساته القامعة، وانتهاكاته الواسعة لحقوق الإنسان.
أمّا بعد الثورة فانتقلت تونس من زمن الأحادية إلى عصر التعدّدية، ومن احتكار السلطة إلى التداول على الحكم، ومن كتم الأفواه إلى تعزيز الحرّيات العامّة والخاصّة، وفتح المجال العام لثقافة الاختلاف، وتراجعت في الأثناء القبضة الأمنية إلى حدّ ما. ويعتبر معظم التونسيين المنجز الحقوقي والتحوّل الديمقراطي من أبرز المكاسب التي أنتجتها الثورة. ولكنّ آخرين، وهم قلّة، ينتمون إلى النظام القديم، أو إلى جماعات سلفية متشدّدة، لا يروق لهم مشروع الدمقرطة، لأنّه يتعارض مع مصالحهم وحرصهم على شدّ النّاس إلى الخلف. لذلك وظّف فلول النظام السابق وسائل إعلامية لتمرير خطابٍ ميّالٍ إلى تغذية أسباب الاستقطاب والشحن الأيديولوجي، وتبخيس الثورة، وتشويه الديمقراطية، وتبييض الحقبة الدكتاتورية. واغتنم غلاة تنظيماتٍ سلفيةٍ حالة 
الانفتاح المشهودة في البلاد، لتمرير خطاب دوغمائي، مشحون بالتطرّف، واستعداء الدولة المدنية وتبديع الديمقراطية. واستغلّوا حالة التهميش والهشاشة والنقص متعدّدة الأبعاد التي يعاني منها بعض الشباب، فعمدوا إلى استدراجهم إلى مهواة الغلوّ، والانتقال بهم سريعا من استيعاب الديماغوجيا المتطرّفة إلى حمل السلاح ضدّ الدولة. وفي هذا السياق، جدّت بعد الثورة عمليّات إرهابيّة دامية، كثيرا ما جاءت إثْر إنجاز التونسيين خطوات مهمّة على درب الانتقال الديمقراطي (إسقاط الدكتاتور، صياغة دستور تقدّمي، تنظيم انتخابات نزيهة، تشكيل حكومة جديدة..). ودلّ ذلك على أنّ الإرهاب يستهدف إرباك سيرورة الحالة الديمقراطية وبنية الدولة المدنية. ووقف الاجتماع التونسي إبّان معظم الهجمات الإرهابية (على الجنود في جبل الشعانبي، متحف باردو، شاطئ سوسة، بنقردان ..) صفّا واحدا ضدّ الفاعل الإرهابي وأعوانه في الداخل والخارج. وأخبر ذلك بأنّ الإرهاب فعل معزول، لا يملك حاضنةً شعبيةً في تونس. ولكنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ بعض المتحزّبين ينتهزون وقوع حدث إرهابي لتحقيق أهداف انتخابية، أو لتصفية حسابات أيديولوجية مع منافس سياسي ما. خذ مثلا على ذلك التوظيف السياسي لاغتيال الناشطين والسياسيين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، سنة 2013، واستباق متأدلجين نتائج التحقيق القضائي في هذا الخصوص. وفي السياق نفسه، شهدت تونس حالة من التجاذب السياسي والتراشق بتهم التخوين والعمالة بين متحزّبين، إبّان استهداف إرهابيين خرجا حديثا من السجن نقطة أمنية على مقربة من السفارة الأميركية في تونس (6 مارس/ آذار 2020). وبدا جليّا أنّ التفجير الإرهابي يحمل رسائل سياسية، أهمّها محاولة ضرب السلم الاجتماعي والمشروع الديمقراطي، والبرهنة على أنّ الجماعات المتشدّدة ما زالت قادرةً على إحداث المفاجأة، واستهداف إحدى الضواحي الحيوية للعاصمة. كما بدا المراد دقّ إسفين التوتّر بين تونس والولايات المتحدة الأميركية باعتبارها من الدول المتقدّمة الداعمة لمسار الدمقرطة والتنمية في البلاد، وتربطها بتونس علاقات صداقة وتعاون عريقة، متينة، تعود إلى زهاء مائتي سنة خلت. ويبدو أنّ بعض السياسيين لم يقفوا عند أبعاد تلك الرسائل وخلفياتها. وانصرفوا يروّجون خطاب التنافي، والشيطنة فيما بينهم. وهو ما يفتّ من عضد الوحدة الوطنية في مكافحة الإرهاب. وفي سياق متّصل، اغتنمت نقابات أمنية الحدث الإرهابي أخيرا للضغط من أجل تمرير قانون خلافي، يعرف بقانون زجر الاعتداء على القوّات المسلّحة، وهو قانون سبق أن رفضته معظم مكوّنات المجتمع المدني، ولم يمرّره فيه المجلس النيابي السابق منذ 2015، لأنّ مضمونه يتعارض مع روح دستور الجمهورية الثانية. واعتبرته منظمات حقوقية وطنية ودولية "مضادّا للحقوق والحريات المدنية التي أحرزها التونسيون بعد الثورة، وإسهاما في تعميق الفجوة بين رجل الأمن والمواطنين".
ختاما، يمكن القول إنّ الحدث الإرهابي فعل يروم ضرب الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتقويض 
السلم الاجتماعي، وتفكيك الوحدة الوطنية. والاستثمار فيه لغايات سياسية أو فئوية لا يخدم المصلحة العامّة. وأحرى بالسياسيين، بدل ترويج الكراهية، نشر ثقافة الاختلاف وروح التسامح، وترسيخ الوعي الديمقراطي لتحصين الأجيال الصاعدة من التطرّف. هل تكفي المعالجة الأمنية لمكافحة الإرهاب؟ بماذا يمكن تفسير البقاء على التطرّف، والعودة إلى ممارسة الإرهاب، بعد انقضاء مدّة العقوبة؟ هل تضطلع المؤسسة السجنية بدورها الإصلاحي/ التربوي، أم أنّها مجرّد تقييد للحرّية؟ لماذا لا تتمّ الاستعانة بمختصّين في العلوم الإنسانية والدينية، لتأهيل ضحايا الديماغوجيا الإرهابية داخل السجن وخارجه؟ متى تكفّ أحزاب وأقنية إعلامية تونسية عن التسابق في إحداث الضجة الإعلامية، وتتسابق بدل ذلك في تقديم مقترحات مفصّلة، وبرامج مفيدة لإنقاذ الشباب من العطالة والتهميش والتطرّف والإرهاب؟ أسئلة يتفادى سياسيون ودعاة تنوير في تونس الإجابة عنها.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.