هذا المنع في معرض مسقط للكتاب

هذا المنع في معرض مسقط للكتاب

02 مارس 2020
+ الخط -
مع توالي السنوات، صار معرض مسقط للكتاب تقليدا ثابتا، ومحطة ثقافية عربية مهمة، تعكس التفاعل المثمر بين المجتمع بفئاته وكتب المعرض وفعالياته. ولكنّ ما يحزّ في النفس أنه ما إن انطلقت فعالياته حتى استأثرت بالاهتمام أخبار المنع الذي طاول بعض الكتب. منع لا يتناسب مع النقلة الحضارية التي تشهدها السلطنة، والتي أكد عليها عاهل البلاد، هيثم بن طارق، في خطابة أخيرا، معبرا فيها عن ركائز المرحلة المقبلة التي تتلخص في تشجيع التعليم والبحث وحرية التعبير والمساواة والمحاسبة. كما أنه لا يوجد في البلاد أي تضييق، أو منع للإنترنت، أو منصات التواصل، والكتاب أحد مجالات التعبير الإنسانية الأساسية، والأكثر عراقة التي تستحق كفالة لحريتها، بالإضافة إلى الفن التشكيلي والسينما والمسرح. ما يجعل التوسع في الرقابة على كتب المعرض أمراً مستغرباً، والكتاب العُماني يستحق الدعم والتشجيع، لا التقييد عليه في موطنه، ناهيك على أن معرض الكتاب مناسبة وفرصة لتعزيز قيم الانفتاح والتسامح واحترام حرية الفكر.
وعندما يزاول موظفو الرقابة ما يمكن تسميته "المنع بالجملة"، فإنهم ربما لا يعرفون من الكتاب سوى ظاهره وليس دلالاته ومعانيه العميقة. كما أن هؤلاء الموظفين يصرّون، ربما سيرا على ما جرت به العادة، على منع كتّاب بعينهم في كل معرض. وكأنّ لسان حالهم يقول: طالما أن هذا الكاتب قد مُنع له كتاب في معرض سابق فلا شك في أن كل ما سيكتبه لاحقا يستحقّ المنع! إذ يدخل موظفو الرقابة، وعادة في اليوم التالي من المعرض، ويشرعون في فرز ما يرونه قابلا للحجز. ومن غرائب موظفي الرقابة مع الكتب منعهم كتبا راجت سنوات طويلة في أروقة المعرض نفسه، ما يجعل الكاتب في حيرة حقيقية وموضوعية، تشعره بعبث كل ما يحدث، وبأن لا علاقة للأمر بكتابه، ولا يعدو أكثر من مزاجية موظفٍ في الرقابة اتقدت قريحته فجأة، ليمنع ما يراه فاسداً، أو غير صالح للاستهلاك، مطمئناً بأن لا حسيب على الرقيب.
لا تتناسب المنظومة القديمة للرقابة مع الحداثة وروح العصر الذي نعيش، وهذه مشكلة بنيوية لا تتعلق بالرقابة على الكتب فقط، بل هي مشكلة المجتمعات التقليدية التي ترغب في أن تتبنّى الحداثة والعصرنة، ولكنْ بمفهوم انتقائي ضيّق. وبذلك تصير هذه الانتقائية الضيقة محلَّ استغراب. ففي هذا الزمن الذي نعيش فيه انفتاحا تاما، ثمّةَ تصرفاتٌ فردية ومزاجية تشوش هذه الصورة الحضارية وتعتمها، فبفضل الإنترنت المفتوح صار العالم بالفعل "قرية صغيرة"، ما يجعل حرص بعضهم على فرض رقابتهم على كتب المعرض أمرا غير مستساغ، وغير فعّال في الآن نفسه؛ فأنت قد تستطيع منع كتاب ورقيّ لكنك لن تنجح في "حظره" أو منع تداوله في هذا العالم الثاني الموازي، الإنترنت، بل قد يكون لسعيك إلى منعه نتائج عكسية تماما، فيزداد الإقبال عليه.
مستوى الرقيب في عُمان يجب أن يتغير، وقد يمكن أن نفهم، تجاوزا، أن يوجد رقيب في هذا الزمن الرقمي المفتوح، ولكن ما هي المعايير التي يستند إليها هذا النوع من الرقيب، وأين ترتسم الحدود لديه بين المقبول والمفروض؟ وهل هناك حرج وحواجز للعلم والبحث والخيال؟ فبماذا إذن يبرر المنع بالجملة الذي يأخذ هيئة فجائية، لا تتناسب والعصر، ناهيك عما تكتنفه من استفزاز واستهانة بالقارئ الذي هو المستهدف بالكتب؟
ولا يقل المستوى الثاني من مستويات حصار الكتاب العُماني مرارة عن سابقه، ما يزيد طين منع الكتاب بلة. أعني تلك "المسرحية" العبثية التي يشارك في فصولها بعض الناشرين، حين يطبعون لكتّاب عُمانيين، مع أنهم يعرفون أن هذه الكتب لن ترى النور في غير معرض مسقط للكتاب، وربما لن يرى بعضها النور أبدا، إذا كان ضمن قائمة الكتب الممنوعة في هذا المعرض.

دلالات

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي