الوديعة الجزائرية والأزمة المالية في تونس

الوديعة الجزائرية والأزمة المالية في تونس

09 فبراير 2020

الرئيسان تبون وقيس سعيد بعد مباحثاتهما في الجزائر (2/2/2020/الأناضول)

+ الخط -
عاد الرئيس التونسي، قيس سعيد، الأحد الماضي، من زيارته الجزائر بـ "صيد ثمين". كانت أول زيارة رسميةٍ يؤدّيها خارج البلاد، كما وعد في أثناء حملته الانتخابية، (باستثناء زيارته عُمان للعزاء في وفاة السلطان قابوس). وعدّت زيارة مثمرة لسببين: التقارب في وجهات النظر في جل القضايا الإقليمية والدولية، ولو من باب المجاملات البروتوكولية، وتقديم الجزائر وديعة مالية قدرها 150 مليون دولار، ستظل محفوظة في البنك المركزي التونسي. وهي الرابعة التي تمنحها الجزائر لتونس (في 2011 بقيمة 50 مليون دولار، تم تسديدها على عشر سنوات بصفر فائدة، وفي 2014 بقيمة مائة مليون دولار بالشروط المالية نفسها، وثالثة في 2015). وتأتي الوديعة الجديدة في وقت حرج، تشهد فيه تونس أزمة مالية خانقة، ناجمة عن إغراقها في الاستدانة، وتكلس الإنتاح بشكل رهيب، ما أحدث فجوة كبيرة بين موارد الدولة ومصاريفها العاجلة والضرورية، إذ تتحدّث أوساط مالية حكومية عن صعوباتٍ في صرف الأجور. تراجع إنتاج البلاد، وخصوصا الفوسفات، وعجز الدولة عن إيجاد واستكشاف أسواق جديدة لموادها الفلاحية التي أتلف الفلاحون بعضها، احتجاجا على ما نعتوه تجاهلا من الدولة لمصالحهم الحيوية، ولقطاع الفلاحة عموما، جعل هذه الصعوبات تستفحل، وتهدّد الاستقرار الاجتماعي، والسياسي عموما.
يعاني الاقتصاد التونسي من عثراتٍ عدّة مربكة، انعكس تأثيرها البالغ على جميع المستويات، الفردية والعامة، خصوصا التي تعلقت بمعاش الناس وحاجاتهم. وربما ساهم هذا العامل تحديدا في تعثر الانتقال الديمقراطي الذي ظلت ساقه الثانية مغلولة ومرتبكة. وقد غدا الإخفاق الاقتصادي الباب الذي تسلل منه الملل من الثورة، والحنين إلى ما سبقها، بحجج واهية، يتم تقديمها من دون دقّة كافية: الرخاء الاقتصادي الذي تحقق في فترة الاستبداد. ومع ذلك، لا أحد ينكر أيضا أن تراجع موارد الدولة أوجد حاجةً متزايدةً للاقتراض والاستدانة بصفة عامة، حتى توفر ما هو محمولٌ عليها.
لا تعد الاستدانة مسألة مستجدّة، حسب خبراء اقتصاديين عديدين، فقد كان الديْن العمومي أحد 
السمات البارزة للاقتصاد التونسي منذ الاستقلال (1956)، وموّلت به الدولة برامجها المختلفة: تحديث البنية التحية، محاربة الفقر، التعليم والصحة وغيرهما. ولئن تكرس الاقتراض بشكل لافت، منذ أواسط تسعينيات القرن الفارط، إلا أن العام 2011 كان، لأكثر من سبب، منعطفا مهما في تاريخ الديْن العمومي. ويبدو أن المعطيات الموضوعية التي ترد من جهاتٍ يُشهد لها بالموضوعية تقرّ مثلا بأن فجوة التمويل بين الاستثمار والادخار تتفاقم بشكل متسارع، حيث استمرّت نسبة نمو الاستثمار في منحىً تنازلي، لتصل إلى 18,5% في 2018 مقابل 24% في 2010، في حين بقي الادّخار في مستوىً منخفض، تحت عتبة 9% من إجمالي الدخل الوطني المتاح. أما ميزان الدفوعات، فلا يزال اتساع العجز في الحساب الجاري يؤثر على مخزون العملات الأجنبية. وبخصوص التضخّم، يفيد خبراء الاقتصاد بأن معدل نسبة نمو الأسعار سجل تراجعا طفيفا، حيث بلغ معدل ارتفاعها 6,9% في 2019 مقابل 7,3% سنة 2018، ولكنه يبقى مرتفعا، على الرغم من التدابير التقييدية التي طبّقها البنك المركزي، وخصوصا على مستوى نسبة الفائدة، والضغط على طلب السيولة.
وقد أدّت كل تلك التراكمات إلى "حتمية" الاستدانة، وهي الآلية الضرورية في هذه الحالات، لإعادة تحقيق توازنات المالية العمومية. يحدث ذلك كله، ووضع المالية العمومية الحالي والسياق السياسي الراهن العام يؤثّران سلبا على سلوك الأفراد والجماعات وردة فعلهم، وعلى المناخ الاجتماعي العام، حيث عرفت البلاد عدة اضطرابات واحتجاجات، علاوةً على تدهور الخدمات الاجتماعية العمومية، على غرار الصحة والتعليم .. إلخ.
وتتجه أنظار التونسيين في الأيام القليلة المقبلة إلى دار الضيافة في قرطاج، حيث يستقبل المكلف بتشكيل الحكومة، إلياس الفخفاخ، رؤساء الأحزاب والكتل البرلمانية، للاتفاق على برنامج الحكومة وأولوياتها، ثم تسمية الوزراء. ويبدو أن الجميع اتفق على هذه المهمة الضرورية، مستبعدين الذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها، حتى ولو تنكروا لوعودٍ قطعوها على أنفسهم. يدرك الجميع، وفي مقدمهم المنظمات المانحة، أن تونس لا تتحمّل انتظار سنة أخرى لتشكل حكومة، إذا ما تم إقرار تلك الانتخابات، فالبلاد على عتبة خطر الإفلاس، إذا تواصل العجز عن تعبئة موارد إضافية لميزانية الدولة، ولو بالاقتراض. والكل يجمع على أن "الديْن الكريه" هو السمة البالغة لما اقترضته تونس، في غياب حوكمة الدين العمومي التي تجعل منه ثروة تقطع تدريجيا مع الارتباط بهذه الحلقة المفزعة، خصوصا وأن البلاد تقترض لتستهلك. وتلتهم كتلة الأجور ومصروفات لا علاقة لها بالتنمية الجزْء الأكبر من تلك الديون.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.