أميركا القاعدة والعرب استثناء

أميركا القاعدة والعرب استثناء

09 فبراير 2020
+ الخط -
"أميركا القاعدة والعرب استثناء"، ذلك ما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وإن لم يقله صراحة، في معرض ازدرائه طلب العراق سحب القوات الأميركية من أراضيه. وقد تساءلت كثيرًا إن كان فخامة الرئيس ملمًّا بالمثل العربيّ الدارج "من الطنجرة إلى المغرفة"، الذي اعتدنا إطلاقه على شخصٍ يراوح في مكانه، وإنْ بدا له أنه قد غادر المكان. أعني أن الرئيس ترامب، بوقاحته المعهودة، إنما كان يدرك تمامًا، أنه حتى لو استجاب للطلب العراقي، فإن القوات الأميركية المنسحبة ستغادر "الطنجرة" العراقية، لتحطّ في عديد "المغارف" المجاورة الأخرى للعراق، أو القريبة منها؛ لأن الإقليم برمته بات مرشومًا بالقواعد الأميركية.
في هذا الازدراء، أصدّق الرئيس ترامب، وأدرك جيدًّا أنه يعني ما يقول؛ ذلك أن مثل هذا الانسحاب، إن حدث وأستبعده، لا يعني غير انتقال الغزاة من طنجرةٍ إلى أخرى، وهو أشبه ما يكون بإعادة تموضع، أو مناورة عسكرية على أبعد تقدير، وسيكون في وسع القوات المنسحبة، أن تعود بطرفة عين إلى "الطنجرة العراقية"، إذا دعت الحاجة لذلك، خصوصًا إذا علمنا أن ثمّة قواعد لها في الكويت والسعودية وقطر والبحرين والأردن وتركيا، فضلًا عن قاعدة ضخمة على هيئة دولة بأكملها تدعى "إسرائيل"، فهل سيكون العراق قادرًا على منعها من العودة، وهو البلد الذي يدرك جيدًا، أزيد من غيره، أن احتلال أميركا له لم يستغرق سوى بضعة أيام؟
في المقابل، أكذّب ترامب، عندما يزعم، في التصريح نفسه، وبلغة الاستعلاء ذاتها، إن الولايات المتحدة لم تعد بحاجةٍ إلى منطقة الشرق الأوسط ونفطها؛ وكأنه يدّعي على نحوٍ مبطّن، أن رحيل أميركا عن إقليمنا بات ممكنًا إذا خرج العرب عن حدود اللياقة في تعامل العبيد مع الأسياد، وربما كان موشكًا على القول: "أروني بعد ذلك ماذا ستفعلون من دوني؟".
يدحض هذا الزعم "الترامبي" ما أسلفناه عن تزايد القواعد الأميركية في الإقليم، حتى وإن زعم ترامب وسواه إن هذه القواعد "مدفوعة الأجر"، وما أنشئت إلا برغباتٍ وتوسّلاتٍ من أنظمة عربية تخشى على عروشها من الزحف الإيرانيّ على المنطقة. ولو صدّقنا هذا الزعم لكان في وسع أميركا أن تكتفي بقاعدةٍ أو اثنتين، لاحتلال إيران أو محوها تمامًا إن استحال ذلك، فلماذا كلّ هذا الهذيان المحموم لإقامة عشرات القواعد إذن؟
ولئن كان السبب حماية إسرائيل، فتلك نكتة ممجوجة ومستهلكة؛ ذلك أن ثمّة من الأنظمة العربية نفسها من يقوم بهذا الدور "سرًّا وعلانية". أما إن كانت الذريعة "محاربة الإرهاب"، فذلك يعني، في ظل هذا الانتشار العسكري الأميركي الشاسع، أن العرب برمّتهم إرهابيون، وتحتاج محاربتهم إلى حشو بلادهم بالقواعد، أما "داعش" وسواه، فلا يحتاج القضاء عليها أزيد من نصف قاعدة على أبعد تقدير.
والغريب حقًّا، أننا لم نشهد هذا العدد من القواعد الأميركية في إقليمنا، حتى في مرحلة القطبية العالمية، يوم كان الاتحاد السوفياتي خصمًا لدودًا لأميركا، فكيف يستقيم هذا التزايد مع انفراد الولايات المتحدة بالقطب الواحد الأوحد؟ ذلك يعني، باختصار، أن ترامب كان كاذبًا بشأن "استغناء" أميركا عن منطقتنا، بل ثمّة مخطط واضح ليس للتوطّن وحسب، بل والتوسّع فيه، ولا أستبعد أن تصبح في كل دولة عربية قاعدة أميركية عما قريب. والسبب خلف هذا الانتشار، فلربما يصعب تحديده الآن، فقد يكون النفط، أو مواجهة الخطر الإيراني، أو حماية إسرائيل، أو مكافحة الإرهاب، أو ربما كل هذه الأسباب مجتمعة، فالأهم هو "القاعدة"، بما يحمله هذا المدلول من احتلال عسكري، أو اختراع إرهابيّ. أما العرب "الاستثناء"، فبات يتعيّن أن يساورهم قلق فعليّ من حمّى الانتشار العسكريّ الأميركيّ الواسع في بلادهم، خصوصًا إذا كان ثمّة مخطط آخر غير تلك الذرائع المستهلكة على لسان ترامب وسواه؛ وإلا فلن نتجاوز حدود أننا محض "طنجرة ومغرفة" يتنقّل بينها الغزاة كذباب المزابل.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.