في رحيل الحلوة

في رحيل الحلوة

08 فبراير 2020

نادية لطفي .. آخر زنابق الزمن الجميل

+ الخط -
ذات يوم، قبل أزيد من خمسة عشر عاما، قال لي صديق، وكنت في زيارة إلى القاهرة: "اليوم قابلت ناديا لطفي مصادفة، لم أتخيل أن تلك التي كانت فتاة أحلام جيلنا قد تغيرت إلى هذا الحد الكبير، غير أن صوتها ما زال يحتفظ بتلك البحّة الخشنة المثيرة، التي لطالما تخيل كل منا أنه يسمعها هو وحده دون باقي الشباب والرجال". تلك الفترة، حين قابلها صديقي، كانت ناديا لطفي في آخر ستينياتها، كان الزمن قد مرّ عليها بيده القاسية طبعا. ولم تكن من الجيل الذي أصابه هوس التجميل، لا باكرا ولا متأخّرا. كان جمالها طبيعيا، ربّانيا كما يقولون. كل ممثلات جيلها كن هكذا. لهذا كانت لكل منهن خصوصية، في الشكل والأداء، تجعل من كل واحدةٍ منهن متفرّدة عن الأخريات، بحيث يصعب على المشاهد أن تكون له ممثلة مفضلة. كن جميعا مفضلات واستثنائيات، بفعل الاختلاف والخصوصية لدى كل منهن، وهو ما يفتقد في ممثلات الأجيال اللاحقة، خصوصا المعاصرات منهن، حيث لا فروقات تُذكر بين واحدةٍ وأخرى. لا بالشكل ولا بالأداء، ولا بالحضور العام الذي كان ميزة ممثلات ما يسمّى الزمن الجميل، الزمن الذي مهما اختلفنا على تسميته وحيثياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلا أنه كان الذي قدّم المجتمع العربي والفن العربي والثقافة العربية في أشكالها الأبهى، والأكثر تقدّميةً وانفتاحا وتنوعا. 
تنتمي ناديا لطفي إلى جيل خاص من ممثلات السينما العربية، الجيل الذي لم تستطع "الصحوة الإسلامية" التي تحالفت مع أنظمة العسكر والاستبداد، وجرفت مجتمعاتنا من مدنيتها، الاقتراب منه. ظلت هي وبنات جيلها وأبناؤه عصيين على مغريات الدعاة وترهيبهم وترغيبهم. لم تعتزل إحداهن الفن بسبب الندم والتوبة. من اعتزلت فعلت ذلك بسبب التقدّم في العمر أو بسبب المرض، لم تتنكر إحداهن لتاريخها الفني بكل ما قدّمته، ولم تضع إحداهن الحجاب، وتعلن توبتها عن المعصية الكبرى التي اسمها الفن. وفي الوقت نفسه، لم تكن أي واحدة منهن مبتذلة، حتى في أكثر أدوارهن إغراء، حتى من كانت منهن تمتهن الرقص الشرقي قبل السينما، على ما للراقصة من سمعةٍ غير محبّبةٍ في مجتمعاتنا العربية. كن جميعا جميلات، ساحرات، فاتنات، أنيقات، منسجمات مع سلوكهن، معنيات بالشأن السياسي والاجتماعي العام. يعطين انطباعا أنهن جميعا ينتمين إلى طبقة النبلاء. ولكن أليس هذا ما يفعله الفن؟ أن يزيل الفروق الاجتماعية بين البشر، ويساوي بينهم جميعا؟! أعني فن السينما العظيم، قبل أن تبدأ الفضائيات بالتناسل، وقبل أن تظهر شركات الإنتاج الدرامي التلفزيوني التي حوّلت الفن إلى مواسم تصلح للإعلانات، وحوّلت الممثلين إلى نسخ متشابهة، يتنافسون بعيدا عن شرف المهنة، ويرضخون لشرط الإنتاج، مهما كان هذا الشرط سيئا أو مختلفا عن قناعاتهم، ويخضعون للشرط السياسي الذي يتحكّم في الإنتاج، وهو أسوأ ما أنتجته حقبة الدراما العربية المستمرّة.
حين أعلن عن رحيل ناديا لطفي، تذكرت ما قاله لي صديقي عند رؤيته لها. عدت إلى صورها كلها، في شبابها وفي كهولتها وفي شيخوختها. لم أجدها إلا جميلة في كل حالاتها. في واحدةٍ من آخر صورها، صوّرتها الشاعرة المصرية إيمان مرسال، كانت ترتدي الأحمر، وكانت قد طلبت من إيمان أن تساعدها على وضع الروج قبل الصورة، هذه الفاتنة التي تصرّ على أن تمارس أنوثتها، وهي على فراش المرض، كيف لا تكون جميلةً، مهما كانت يد الزمن قاسيةً عليها، هل الجمال غير تلك الروح المتوثبة للحياة، طالما يعيش فيها النبض، مهما كان خافتا؟ يمكن للجمال الخارجي أن يُصنع، تتم حاليا صناعة جمال الشكل، غير أن الروح تلك التي لناديا لطفي لا يستطيع أحدٌ صنعها، تشبه جمالها في شبابها، ربّانية، متفرّدة وخاصة، زادها بهاءً وحضوراً تاريخٌ طويلٌ من الانتماء للسينما وحدها، وتاريخ من الاهتمام بالقضايا الوطنية الكبيرة، وهو الاستثناء الذي ميّز ناديا لطفي، طوال حياتها، عن كثيرات غيرها.
.. لطالما كنتُ منحازةً لناديا لطفي، ما أزال أتابع أفلامها للمرة المائة ربما، بالشغف نفسه. ربما لأنني أرى فيها ملامح أمي في شبابها وملامحها في شيخوختها. ربما أيضا لأنني أحب النساء الحاضرات بقوة، ليس فقط في الفن والأدب، بل في القضايا العامة. ربما أيضا لأنني أحب النساء اللواتي يعتنين بأنوثتهن الداخلية، عبر تفاصيل دقيقة بالغة الأهمية. ربما لأنني أحب ضحكتها بفم مفتوح على آخره. ربما لكل تلك الأسباب مجتمعة أحبها، وحزنت على رحيل الحلوة البهية الأنيقة، آخر زنابق الزمن الجميل وأجملها.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.