الحراك الاحتجاجي وضمور الأب الوصي

الحراك الاحتجاجي وضمور الأب الوصي

08 فبراير 2020
+ الخط -
يحظى الأب في المجتمعات الشرقية عموما، والعربية خصوصا، بمكانة سَنيّة، باعتباره عماد الأسرة، وربّ البيت، وعليه المعوّل في مرافقة أفراد العائلة، ورعايتهم، وترشيدهم، وتوجيه النصيحة لهم. وغالبا ما يعتبره الأبناء سلطةً أخلاقية، وقدوةً مثالية يقتضي سلوكها التقليد، وتستوجب أوامرها التنفيذ. ولكن في السياق الاصطلاحي التداولي، اللغوي العربي، الحديث، لم يعد مفهوم الأبوّة مقتصرا على الإحالة على الأب البيولوجي، بل تجاوز ذلك إلى الدّلالة على الأب الرّوحي في السياق الديني، والزعيم/ الأب في المجال السياسي. والمتابع سيرورة الحراك الاحتجاجي (2019 - 2020) في بلدان عربيّة، يتبيّن أنّ المحتجّين تحرّروا، إلى حدّ كبير، من وصاية الأب في تجلّياته المختلفة. ونزلوا إلى الشوارع، وواجهوا بصدور عارية أجهزة الدولة البوليسية، معبّرين عن وجودهم، وعن رغبتهم في تحقيق التغيير الشامل، ولم تنفع دعوات الأب البيولوجي، أو الرّوحي، أو السياسي في ثنيهم عن ذلك. 
يتبدّى تراجع سلطة الأب البيولوجي في ضبط السلوك الثوري، والتعبير الاحتجاجي للأبناء في أنّ الشباب المحتجّ على سياسات النظام الحاكم لم يمتثل عمليّا لنصيحة بعض الآباء بلزوم الحذر، وتفادي النزول إلى ميادين الاحتجاج، خوفا عليهم من سطوة الأجهزة الأمنية والعسكرية، ومن الانحدار في مهواة حرب أهلية. وفي هذا السياق، تمرّد الشباب الثائر في مصر على نصيحة الكبار بعدم المغامرة بالتظاهر في ظلّ قانون الطوارئ، وعسكرة الشارع، وامتلاء المعتقلات بسجناء الرّأي (حوالي 60 ألفا)، فتحدّوا النظام السلطوي والخوف الأبوي، وكسروا في
"انتفاضة القصور" حاجز الرّهبة وجدار الصمت، وصرخوا عاليا "يسقط .. يسقط حكم العسكر". وفي لبنان، لم يأبه الشباب كثيرا إلى خشية آباء وأمّهاتٍ من إمكان استعادة سيناريو الحرب الأهلية في حال استمرّ الجيل الجديد من المحتجّين في التظاهر على النّظام الطائفي الحاكم. وبدا واضحا إصرار المنتفضين على تحقيق مطالبهم، وفي مقدّمتها تحسين الوضع المعيشي، ومكافحة الفساد، وتشكيل حكومةٍ جديدةٍ من التكنوقراط. وتجاوز المحتجّون النّوازع الطائفية التي ارتهن إليها السلف، رافعين شعاراتٍ دالّةٍ من قبيل "أنتم الطائفيون، ونحن جيل العيش المشترك"، و"إذا ما صِرنا شعب واحد، رَح ياكلونا واحد، واحد". وفي ذلك تعبير عن وعيٍ شبابيٍّ جديد، يقطع مع مسلّمة الاصطفاف الطائفي، ليؤسّس لقوّة المجتمع المدني ووحدته في مواجهة الطبقة السياسية الطائفية القائمة.
والأمر نفسه مشهودٌ في الحالة العراقية، فعلى الرغم من أنّ البلد أنهكته الحروب، فإنّ الجماهير الشبابية المحتجّة لم تقبل الرّضوخ لإملاءات الحالة الطائفية ومتعلّقاتها، ولم تُبالِ برصاص القنّاصة، وكيد المليشيات المذهبية. وملأ المتظاهرون الميادين، رافعين شعارات معبّرة من قبيل: "نريد وطنا"، "إخوان سنّة وشيعة .. هذا الوطن ما نْبيعه". وهو ما يُخبر بصيرورة في الوعي الاحتجاجي لدى الجيل الجديد الذي اختار بذل الجهد والنفس في طلب الحرّية والكرامة، والتمسّك بِعُرى الوحدة الوطنية، بديلا عن ثقافة الزبونية، والمحسوبية، والمحاباة، والمحاصصة الطائفية. وفي الجزائر، واظب الشباب الثائر على تنظيم تظاهرات احتجاجية سلميّة ضدّ نظام عبد العزيز بوتفليقة وأعوانه، وضدّ لوبيات الفساد ونهب المال العامّ، ولم يأبه المحتجّون لرُهاب التظاهر الذي روّجه القدامى مخافة استعادة العشرية الدموية السوداء التي عرفتها البلاد. وتوالت المظاهرات الاحتجاجية بطريقة حضارية شهورا، حتّى امتلك المحتجّون المجال العام، وأصبحوا قوّة شعبية وازنة، نجحت، على التدريج، في استتباع الأجيال السّابقة، وفي دفع النّظام الحاكم إلى اتخاذ تدابير إصلاحية مهمّة.
على صعيد آخر، يلاحظ الدّارس أنّ الحراك الاحتجاجي العربي (2019 - 2020) هشّم ما يُعرف بصورة الزعيم الملهم، والقائد/ الأب في التاريخ السياسي العربي قديما وحديثا. فالفعل 
الاحتجاجي لم يكن بإيعازٍ من شخص معيّن يتميّز بقوّة كاريزميّة، وخطاب جذّاب، يلتفّ النّاس من حوله. بل كان الاحتجاج عملا تعبيريّا شعبيّا عارما، تمارسه وتقوده الجموع المقهورة، المهمّشة، والغاضبة من سياسات النّظام الحاكم. ولم تكن لرئيس الدولة في كل من مصر، ولبنان، والعراق، والجزائر، قوّة إقناعية، وطاقة تعبيريّة، وأبّهة اعتبارية، أخلاقية كافية، لثنْي النّاس عن الاحتجاج، وإقناعهم بضرورة العودة إلى بيوتهم، والتسليم بالوضع الرّاهن. وحتّى عبد الفتّاح السيسي في مصر لم ينجح، على الرغم مما لديه من عسكر، وعتاد، وعُدّة، وعلى الرغم من محاولته تقمّص صورة الرئيس الرّاحل جمال عبد النّاصر، وترويجه خطابا يوهم بمشاركة النّاس همومهم، وعلى الرغم من محاولة وسائل إعلام موالية له تبييض نظامه الشمولي، لم ينجح الرّجل، بعد ستّ سنوات من الانقلاب، في إسكات أصوات الثائرين الشباب الذين نزلوا من جديد ولو بأعداد محدودة إلى ميادين الاحتجاج، مطالبين برحيله، رافعين شعارات من بينها: 'ارحل يا سيسي" ، "قول ما تخافشي .. السيسي لازم يمشي"، وبادر بعضهم بتمزيق صور الرئيس، ودوسها تحت الأقدام، وإضرام النّار فيها، تعبيرا عن ضيقهم بسياسات القبضة الأمنية، وهيمنة الحزب الواحد، وإهدار المال العام، ورفضهم نظام الحكم الكلياني/ الأحادي ومتعلّقاته.
ومن المفيد الإشارة إلى أنّ زعماء الأحزاب الحاكمة والمعارضة لم ينجحوا في توجيه الحراك الاحتجاجي في المنطقة، ولا في احتوائه أو قيادته. بل لزموا الصمت، والوقوف على الرّبوة حينا، وحاولوا ركوب الحدث واللحاق بالموجة الاحتجاجية حينا آخر. ويرجع ذلك إلى أنّ الاحتجاج الجمعي فاجأهم، وكذا إلى عدم ثقة المحتجّين في المتحزّبين خصوصا، والسياسيين عموما. وجلّى ذلك ترديد الثائرين شعاراتٍ، منها "كلّ الخراب من الأحزاب"، و"إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ للبرلمان أن ينجلي". فيما أخبرت شعارات أخرى من قبيل "يتنحاو قاع" (الجزائر)، و"شلع قلع" (العراق)، و"الشعب يريد إسقاط النظام" (مصر)، و"كِلّن يعني كِلّن" (لبنان) عن شوق المحتجّين إلى تغيير جذري، يعصف بكلّ مكوّنات الطبقة السياسية السائدة، لتماديها في خدمة مصالحها الضيّقة، وتخاذلها في تلبية مطالب المواطنين (شغل، حرّية، كرامة، عدالة، تنمية شاملة...).
أمّا الأب الرّوحي الذي يُمثّل مرجعيّة دينية أو طائفية، أو مذهبيّة لعدد من المريدين داخل 
الاجتماع العربي، فلم يُفلح في احتواء الشارع الاحتجاجي، واستمالة الفاعلين فيه، ولم يُسعفه خطابه البياني، الوعظي، المراوح بين الترغيب والترهيب في التحكّم في الموجة الاحتجاجية الشعبية، المطلبيّة العارمة. ولم يجد سبيلا للتأثير النّاجع فيها. ويمكن تفسير ذلك بأنّ قطاعا مهمّا من المحتجّين يعتبر نفسه في حِلّ من الوصاية الدينية/ الطائفية. كما أنّ طيفا آخر من الثائرين يعتبر معظم المرجعيات الدينية والمشايخ والدعاة ورجال الدين جزءا من المشكل، لا من الحلّ، باعتبارهم، في الغالب الأعمّ، ينتمون إلى النظام الرّسمي القائم، ويسعون، عبر خطابهم الموجَّه، إلى تبرير سياساته، والعمل على إنقاذه وضمان استمراره على كيفٍ ما.
يمكن القول، ختاما، إنّ الحراك الاحتجاجي حرّر المواطن العربي، ولو نسبيّا، من سطوة الدولة القامعة، ومعه كفّ الشعب عن كونه ملحقا بالنظام الحاكم، ليصبح مؤثّرا فيه، ولسان الجيل الجديد يقول "مش رَح نِبقى عبيد" على حدّ تعبير أحد اللبنانيين. كما أنّ صعود الفعل الاحتجاجي وامتداده حرّر العربي، إلى حدّ معتبر، من سلطة الأب البيولوجي، ومن وهم الزعيم الملهم، والرئيس المنقذ، ومن وصاية رجل الدين التابع للنّظام. وأسّس لوعي جمعي جديد يؤمن بثقافة حقوق الإنسان (نازل آخذ حقّي)، ويعتبر الحكم تكليفا لا تشريفا، ويعتقد أنّ الشعب مكوّن وازن في العمليّة السياسية، وفي إدارة الشأن العام، وبناء الدولة المواطنية، ولا يُمكن للأب السلطوي، في تجلّياته المختلفة، أن يقوم بديلا عنه أو وصيّا عليه.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.