في تذكّر "سبارتاكوس"

في تذكّر "سبارتاكوس"

07 فبراير 2020
+ الخط -
يُتمّ فيلم ستانلي كوبريك "سبارتاكوس" عامَه الستين هذه السنة. لم يكن صاحب هذه الكلمات في الدنيا قبل أن تعرف السينما هذا العملَ العلامة، يتذكّر قعودَه أمام التلفزيون، ليلةً قبل 34 عاما ربما، ليشاهد على شاشة التلفزيون الأردني هذا الفيلم، لأن قصيدةً لأمل دنقل اسمُها "الكلمات الأخيرة لسبارتاكوس" (1962)، كانت قد مرّت على قراءاتِنا، وربما هي التي جعلت العشريني الذي كنتُه يُطالع ما تيسّر عن ثائرٍ في زمن الإمبراطورية الرومانية يحمل هذا الاسم، قاد ثورة العبيد ضد مستعبديهم الطغاة. لولا تلك السهرية أمام التلفزيون الأردني (لم نكن قد عبرنا إلى زمن الفضائيات ويوتيوب)، لما صارت الفرصةُ الثمينةُ لمشاهدة فيلمٍ ليس كما غيرُه، باهظ الجاذبية، سيما وأن مشاهداتِنا في السينما العالمية لم تكن في الوفرة التي جدّت تاليا. فيلمٌ لا يُنسى، وإن شاهدتَه على شاشة تلفزيون، فيما هو من الملاحم السينمائية التي يخسر كثيرا من لا يُشاهدها على شاشاتٍ عريضة، وفي أجواء تناسبها. وفي مرةٍ تاليةٍ، متأخرّة، في سهريةٍ بإيقاعٍ آخر، أحرز الخمسينيُّ الذي صرتُه بهجةً مضافةً لمّا استعاد "سبارتاكوس" من "يوتيوب" على شاشة حاسوب، ربما بباعثٍ نوستالجيٍّ، نفسانيٍّ محض، لا علاقة له بنصرة ثورة عبيدٍ قبل الميلاد سبعين عاما. 
نبأ وفاة نجم السينما الأميركية (الهوليوودية كما يقولون)، كيرك دوغلاس، أمس، عن 103 أعوام، أيقظ تلك الغبطة، الثاوية في الحشايا، بأداءٍ باهر لهذا الفنان، الموصوف بأنه أسطورة، في ذلك الفيلم الذي تعلّق بعرش روما القديمة عندما ترجرَج واهتز، لمّا ثار مظلومون على طغاتهم، ولمّا قادهم إلى التمرّد مستعبَدٌ منهم، قويٌّ، ذو ملامح حادّة، مقاتلٌ ومحارب، اسمُه سبارتاكوس. صار من أيقونات التاريخ، رمزا باقيا للحرية والكرامة، وقبل ذلك وبعده، رمزا لفكرة الثورة التي ما أشدّ حاجة الإنسان، في كل زمن ودهر، إلى حمايتها. للنجم الراحل تسعون فيلما، أولها في 1946، الأرجح أن "سبارتاكوس" الأكثر شهرةً في العالم، والذي دشّن فيه مخرجُه، الشاب في حينه، ستانلي كوبريك (1928 - 1999)، مسار تألقه، وهو الذي كان قد عمل مصوّرا، وقد قال عن تجربته في هذا الفيلم إنه كان يقوم فيه بدور المصوّر والمخرج والمنتج ومساعد المنتج وفني المؤثرات الصوتية. ولا يُغفل هنا ما أنجزته موسيقى باليه "سبارتاكوس" للأرمني خاتشادوريان، والتي حضر بعضٌ منها في الفيلم الذي طالعْنا أن روح التمرّد التي يحتفي بها حاضرةٌ في سيرة كيرك دوغلاس، اليهودي من أسرةٍ مهاجرةٍ إلى نيويورك من بيلاروسيا، ذو النزوع اليساري إلى حدّ ما، فقد كان من الأصوات العالية ضد قائمةٍ سوداء في "هوليوود" تتضمّن من كان يشتبه بشيوعيتهم.
بلغت أرباح "سبارتاكوس" في زمنه 60 مليون دولار. وبذلك لسنا وحدنا، نحن العالمثالثيين، من انجذبْنا إليه لأنه عن عبيدٍ ثائرين، وذلك لجمالياته المتعدّدة، في حيوية لقطاته، وإدارة الجموع فيه، وفي الإتقان المتحقق في نقل المشاهد إلى إيقاعات زمنٍ قديم، إبّان امبراطورية روما وشراء العبيد فيها ومتعة ملّاكهم بقتل مصارعٍ من هؤلاء المستعبدين مصارعا آخر في أوقات اللهو والفرجة عليهم. قبل أن تنعقد الثورة التي اختار الفيلم، المأخوذ عن روايةٍ لكاتب أميركي، أن يتضمّن قصة انفصال العبد سبارتاكوس عن زوجته التي يحبّها، عندما يشتريهما طاغيةٌ متجبّر، فتُقاد الزوجة إلى قصر هذا الطاغية. وتتدحرج الوقائع الشائقة في الفيلم الطويل (نحو ثلاث ساعات)، وبعضُها يحبس الأنفاس (مع الاعتذار لهذا التعبير التقليدي) فعلا. وبعد جولات القتال ومفاجآت المعارك، يُهزم سبارتاكوس ورفاقُه العبيد الثائرون، ويُقتل، من دون أن يعرف القاتلون أنه القائد المطلوب، فيسأل أحد القادة أسرى عبيد كثيرين قدّامه عمّن يكون منهم سبارتاكوس، فيصيح أول إنه هو، ثم ثان، ثم ثالث، ثم الجميع بصوت واحد "أنا سبارتاكوس".
مات الثائر سبارتاكوس في الفيلم البعيد، قتيلا بسهام الغادرين وسيوفهم. وفي وُسع أصحاب الأخيلة والقرائح النقية، المنحازة حقّا إلى حناجر الثائرين في كل أرضٍ ضد كل عسفٍ واستبداد، أن يستوحوا من سيرة ذلك المستعبَد القديم مسرحياتٍ وقصائدَ ورواياتٍ، ترمي الطغاة الراهنين بما يستحقّون من ازدراء واسترذال. .. فعل أمل دنقل شيئا من هذا في قصيدةٍ غير منسيّة. ومن سيفعل مثله لن تُفارقه صور كيرك دوغلاس في فيلمٍ باقٍ وجميل.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.