صفقة القرن والشرعية المهزوزة

صفقة القرن والشرعية المهزوزة

07 فبراير 2020
+ الخط -
ما أن تم إعلان "صفقة القرن"، حتى بدأ العرب يتقاذفون الاتهامات، طرفٌ يتهم الآخر بعدم الواقعية، وطرف آخر يتهم الثاني بالخيانة والتواطؤ والخذلان، حتى أصبحت المسألة بالنسبة لكثيرين كمن يدور في دائرة مفرغة، فلا شيء يتغير سوى الاتجاه نحو الأسوأ، فلا فصيل المقاومة استطاع تغيير واقع ما يجري من تدهور وانحطاط، ولا فصيل الواقعية نجح في إقناع الآخرين بواقعيته. 
تبدو منطلقات طرح الطرفين مغلقة على أصحابها وغير قادرة على الانفتاح، فطرف الواقعية، والذي يستند إلى فرضيتين أساسيتين، أولهما إن الفلسطينيين طالما رفضوا فرصاً أفضل، من بينها عرض أنور السادات لهم بالانضمام لمفاوضات اتفاق كامب ديفيد، وهي فكرةٌ فيها مغالطة تاريخية صريحة، لأنها تعارض كل من شاركوا في مفاوضات كامب ديفيد، بمن فيهم بطرس غالي، أبرز صانعي اتفاق كامب ديفيد، لكن شدة انتشار هذه المقولة حوّلتها إلى حقيقة لدى بعضهم. والفرضية الثانية: لا يمكن تحرير فلسطين من دون حل مشكلة أوطاننا، وإن بلدي أهم من القدس، هذا الخطاب الذي يفترض أن فلسطين تحولت إلى عائق في السلم الداخلي لبلده أو للتنمية هو أيضاً خطابٌ مفرطٌ في الانغلاق. والغريب أنه لا يتسم بالواقعية السياسية التي يدّعيها، بل يتسم باللا واقعية، لأنه ببساطة خطابٌ غير قابل للتطبيق. لا يعترف هذا الخطاب بحقيقة سياسية بسيطة، وهي وجود فكرة المنظومة الإقليمية، ولا يمكن لدولةٍ أن تنهض وتستقر في منظومة غير مستقرّة. هذا أمر لا سابقة له، فلم تنهض شرق آسيا سوى كمنظومة، والحال كذلك في أوروبا وأميركا اللاتينية. ولا يمكن عزل قضية حيوية مثل قضية فلسطين عن باقي المنظومة المعتلة. لهذا المنطق الذي يؤمن بأن التنمية والسلام الوطني أوْلى من فلسطين مثال كاشف في مصر التي لم تشهد تطورا أو تنميةً منذ قرارها الانكفاء والسلام مع إسرائيل في "كامب ديفيد" عام 1978.
هذا خطابٌ يتبناه مثقفون عرب، ارتضوا أن يكونوا ضمن آلة التضليل في مستنقع أخلاقي
 وسياسي عميق، يسترخون فيه، ويجدون جمهوراً أصابه اليأس والسأم، ليصبح مفهوم الواقعية السياسية أمرا لا يخالف الأخلاق وحسب، بل يخالف السياسة ذاتها، معتبراً الهزيمة والضعف مرجعيةً نهائيةً وقدرا لا يمكن المناص منه.
لدى الطرف الآخر اتهامات جاهزة وقديمة، لكنها لم تبلَ لديه. اتهام هذا الطرف باللا واقعية صائب تماماً، فهو طرفٌ لم يتجدّد، وأصبح متحجرا في حالة استرخاء ضمير، فالطرف السابق، على الرغم من محاولته للتحجج بالتاريخ والمنطق، يعاني في ضميره، وهذا يظهر من منطقه الدفاعي. أما الطرف المقاوم فهو هجومي في منطقه، مبادر بالاتهام من دون تغيير لحججه العاطفية في معظمها من دون النظر إلى حالة جماهيرية واسعة من الإحباط واليأس والعجز تجاه القضية الفلسطينية، يستثمرها الطرف الآخر.
هذا الطرف الذي يحاول استثمار ما تبقى من مشاعر دينية تجاه القدس، عجز كلياً عن إقناع الناس بأن قضية فلسطين تتجاوز القدس، بل هي قضية بشر ولاجئين وقيم إنسانية تنتهك من حرية وعدالة. هو طرف لم يستفد من نضال مشاريع استيطانية سابقة، مثل جنوب أفريقيا والجزائر، خصوصا جنوب أفريقيا التي كانت ضمن منظومةٍ شديدة البؤس حينها. خطاب لم ينطلق من مفاهيم دينية ضيقة وعاطفية لمفاهيم إنسانية، ومن منطق التضامن مع فلسطين بوصفها قضية تعني الفلسطينيين لقضية تعني الجميع عمليا وليس افتراضاً، فلا يمكن بناء دولةٍ بصبغةٍ دينيةٍ كاملة، وهي الدولة اليهودية في المنطقة، من دون ارتداداتٍ في المنطقة، فهذه سابقة سوف تفتح الباب لتشكيل دولة سنية وأخرى شيعية وعلوية وغيرهما. خطابٌ لم يستطع إثارة خطورة تأسيس حالة اللادولة في خريطة الجزر المعلنة، مع ترك مشكلة اللاجئين بلا حل، يعني بالضرورة التوجه نحو فكرة الوطن البديل، وهذا يعني تغييرا في شكل الدول الحالية وحدودها وتقسيماتها.
تصوير قضية فلسطين على أنها مشكلة القدس، بلا اعتبار لقضايا ملايين اللاجئين وحقهم الطبيعي في العودة أو قضية أرضٍ انتزعت من أصحابها بالقوة، أو قضية تشكيل دولة عنصرية استيطانية في المنطقة، بكل ما يعنيه هذا من زعزعة لسلمها واستقرارها، أصبحت قضية سهُل ركوبها من دول إقليمية لم تقدّم لها سوى الخطاب الديني، مثل إيران وتركيا، لكنها عملياً لم تقدّم شيئا، حتى دعم فصائل المقاومة من إيران كلف المنطقة كثيراً، ولم يوقف مخططات إسرائيل في ابتلاع ما تبقى من فلسطين، بل ساعدها أكثر.
بنيّةٍ مسبقة أو بغيرها، أدّى دعم إيران فصائل مقاومة ضمن توسع دورها الإقليمي إلى تعميق 
الانقسام الطائفي في عدة دول، وهذه نتيجة طبيعية لفكرة المقاومة، عندما تكون منزوعة عن سياقها الوطني، وبلا مشروع تحرّري شامل، فكيف لنظامٍ يقتل شعبه ويضطهده أن يصبح مقاوما وصاحب مشروع تحرّري؟
تحولت القضية الفلسطينية إلى قضية خاصة بالفلسطينيين، بعد أن أصبحت قضيةً منزوعة من سياقها الإقليمي، ومعاناة الإقليم من أنظمة مستبدّة وهيمنة خارجية. هكذا أصبح بسهولة يمكن لأي نظام أن يرفع شعارات المقاومة والقضية الفلسطينية من دون أية كلفة حقيقية عليه، بل تصبح قضية فلسطين مبررا كافيا وغطاء شرعيا للظلم والعنف والهيمنة بأشكال مختلفة.
ينشغل العرب حالياً بصراعاتهم المذهبية والبينية، ما يعني تراجع القضية الفلسطينية من قضية مركزية إلى قضية هامشية، فمنذ البداية كان أحد إشكالات القضية الفلسطينية والتعاطي معها عزلها عن بقية الإشكالات السياسية في المنطقة، فلا يمكن لشعوبٍ تعاني من الاستعباد والمهانة في بلدانها أن تحرّر فلسطين.
إشكالية الخطابين أنهما يقعان ضمن منظومةٍ سياسية بكاملها معطوبة، فالقضية الفلسطينية لا تزال أسيرة إشكالية الشرعية لأنظمة هذه المنطقة، أنظمة فشلت في التحوّل نحو الديمقراطية، أو إيجاد غطاء شرعية لأنظمتها، في وقتٍ تتزايد فيه الفجوة الاقتصادية بين الفقراء والأغنياء، وتضعف خدمات الدولة، ما يزيد من تململ الناس وسخطهم.
أنظمة مشغولة بالبحث عن شرعية ومرتكزات قوة يعوّضها انفصالها عن مجتمعها، وخشيتها من السقوط. رأى أحدها أن قوة أميركا تسانده وإرضاءها ضرورة له، وبالتالي عليه التنازل عن فلسطين، وهي أبسط ما يمكن التنازل عنه. وآخر رأى أن رفع شعار المقاومة وتحدّي أميركا للتذرّع بنظرية المؤامرة والاستهداف الأميركي ضد كل دعوات الغضب الشعبي الداخلي، وبالتالي قضية فلسطين أقل الشعارات كلفةً، فهي لا تنتقص من سلطوية النظام، ولا تكلّفه أية إصلاحات داخلية.
ويتناسى تيار الواقعية الذي يرى في فلسطين عبئاً يجب التخلص منه، أن فلسطين ليست القدس ومكانا للصلاة، فضياع قيم الحرية والعدالة في المنطقة لن يؤسّس للرخاء والازدهار وكلفة تأسيس دولة يهودية سوف يصعد من تياراتٍ دينيةٍ متطرّفة، ويؤجج الصراع الديني في المنطقة. وعدم الاعتراف بحق العودة للاجئين يعني بالضرورة البحث عن وطنٍ بديل، هذه كلها كلفة سوف تدفع ثمنها المنطقة من مستقبلها ودم أبنائها. في المقابل، حاول طرفٌ بخطابه العاطفي بحجة المقاومة ودعم فلسطين تحويل قضية فلسطين من مشروعٍ تحرّري لمشروع ديني يكرس السلطوية والانقسام الاجتماعي والصراعات الداخلية.