"حال الاتحاد" الأميركي في الحقبة الترامبية

"حال الاتحاد" الأميركي في الحقبة الترامبية

07 فبراير 2020
+ الخط -
ما بين رفض الرئيس الأميركي، دونالد ترامب مصافحة رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، قبل إلقائه خطاب "حال الاتحاد"، الثلاثاء الماضي، وتمزيق الأخيرة نص خطابه، بعد فراغه من إلقائه أمام الكونغرس، بدا واضحاً أن "حال الاتحاد" الأميركي ليست بخير. اللافت هنا أن ترامب اعتبر، في خطابه، أن "حال اتحادنا أقوى من أي وقت مضى"، غير أن تقويمه هذا، وإنْ سعى إلى تأسيسه على أرضية الأوضاع الاقتصادية الداخلية، والمكانة الدولية للولايات المتحدة خارجياً، حمل كثيرا من اللغة الحزبية المشحونة، وبدا أقرب إلى خطابٍ انتخابيٍّ استعداداً للانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. 
السوريالية التي اختزنها المشهد، بدءاً من التصرّف غير اللائق في مكتب الرئاسة الذي بدأ به ترامب، مروراً بالتعبيرات على وجه بيلوسي والإيماءات التي حرصت على إظهارها خلال إلقائه خطابه، ثمَّ جلوس فريق المفوضين الديمقراطيين الذين كانوا يحاكمون ترامب أمام مجلس الشيوخ إلى جانب بعضهم بعضاً، وصولاً إلى لحظة تمزيق نص الخطاب، وهو فعلٌ غير لائق، أيضاً، بموقع رئاسة مجلس النواب، تدلّ بشكل حاسم على "اتحادٍ" يعيش انقساماً وتوتراً شديديْن. والانقسام هنا ليس سياسياً فحسب، بين حزبين يتقاسمان السلطة ويحتكرانها منذ 168 عاماً (يؤرّخ لبدء سيطرة الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، على الحياة السياسية في الولايات المتحدة بعام 1852)، بقدر ما أنه يعبر عن انقسام، وربما شرخ مجتمعي حقيقي. ولذلك، تجد أن كلا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، أكثر تخندقاً ضمن مواقف إيديولوجية اليوم، فثقافة قواعدهما لا تقبل المساومات، ولا البحث عن أرضية مشتركة، ومن حاول أن يعاند التيار الجارف ضمن حزبه قد ينتهي به الحال مهمَّشاً ومنبوذاً.
الملاحظة المهمة هنا أنه ربما لم تشهد الولايات المتحدة في تاريخها، منذ الحرب الأهلية 
(1861- 1865)، هذه الدرجة من الانقسام السياسي، ولا هذا المستوى من الشرخ المجتمعي الذي تمر به راهناً. خذ مثلاً محاكمة ترامب بتهمتي إساءة استخدام السلطة وعرقلة عمل الكونغرس، واللتين وجههما له مجلس النواب، بأغلبيته الديمقراطية، في حين برّأه منهما، يوم الأربعاء الماضي، مجلس الشيوخ بأغلبيته الجمهورية. كان واضحاً أن دفاع الجمهوريين عن ترامب كان منطلقاً من حسابات حزبية سياسية، لا حسابات قانونية قضائية. هذا ما أشار إليه صراحة، من قبل، زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، ورئيس اللجنة القضائية في المجلس، ليندسي غراهام. الأبرز في هذا السياق أن توالي الكشف عن الحقائق، في الأشهر الماضية، في محاكمة ترامب في مسألة رهن المساعدات العسكرية التي أقرّها الكونغرس لأوكرانيا بإجراء تحقيقٍ يطاول منافسه الديمقراطي المحتمل، نائب الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن وابنه، لم يؤثر كثيراً على الرأي العام الأميركي. لقد بقيت نسب المؤيدين لتوجيه اتهام للرئيس وإقالته، ومن يعارضون ذلك، كما هي تقريباً لم تتغير. إذن، نحن أمام مشهدٍ لا تهم فيه المعطيات ولا الحقائق، بقدر ما أن المسألة متعلقةٌ بالانحيازات والمواقف المسبقة.
يدرك ترامب، تحديداً، هذه الحقيقة، وهو يعلم أن حزبه مرهونٌ له، ولا يجرؤ على التمرّد عليه، فالقاعدة الانتخابية للجمهوريين ستتكفل بتأديب كل مسؤول يفكّر بالخروج عن نسق "الترامبية" العام. ومن ثمَّ فإن قليلين في الحزب يملكون الجرأة على ذلك، وهم حين يُقدمون على مثل هذا الأمر، فإنهم يغامرون بتداعياتٍ سلبيةٍ محتملة على حياتهم السياسية. ولعل في تكريم ترامب الإذاعي الأميركي اليميني الشهير، رش ليمبو، بـ"ميدالية الحرية"، خلال خطاب "حالة الاتحاد"، وهي أعلى ميدالية تمنح للمدنيين أميركياً، ما يؤكد أن ترامب يبحث عن تعضيد قاعدته الانتخابية اليمينية، ولو على حساب المسِّ بقيمة تقدير رئاسي لا يُمنح إلا لمن قدّموا خدمات عامة جليلة، أميركياً أو عالمياً. وحسب القرار الرئاسي لعام 1945 الذي استحدث هذه الميدالية الرئاسية، فإنها تمنح لمن "قدّموا مساهمات مقدرة للأمن أو المصالح القومية الأميركية، أو السلام العالمي، أو في المجال الثقافي، أو غير ذلك من المجالات العامة أو الخاصة الهامة". ولا تقتصر هذه الجائزة على المواطنين الأميركيين، بل هي قد تمنح لغيرهم ممن يرتقون إلى المعايير السابقة. وعلى الرغم من أنها مدنية، فإنها قد تمنح لعسكريين سابقين. المفارقة هنا أن أيّاً من المعايير السابقة لا ينطبق على ليمبو، فهو ليس يمينياً عادياً، بل هو عنصريٌّ أبيض فَجٌّ، لم تسلم أقلية من شرّه، كما أنه لا يُخفي كرهه الإسلام، وتعدّه نساء كثيرات معادياً لحقوقهن. وذلك كله لم يعن شيئاً لترامب، ولم يأبه بالأصوات المستهجنة لتكريم مثل هذا الرجل. المهم هنا رأي قاعدته الانتخابية، والتي ترى في ليمبو أيقونة ورمزاً.
ينص الجزء الأول من البند الثالث في المادة الثانية من الدستور الأميركي أن على الرئيس "تقديم معلومات للكونغرس عن حالة الاتحاد.. من فترة إلى أخرى"، وهي في العادة تتضمّن معلوماتٍ 
عن الميزانية والاقتصاد، فضلا عن تمكين الرئيس من دفع الأجندة التشريعية التي يريدها. ومنذ إدارة الرئيس الأميركي الثالث، توماس جيفرسون (1801-1809)، أخذ الخطاب شكل رسالة مكتوبةٍ يبعثها الرئيس إلى الكونغرس. إلا أن هذه الممارسة تغيّرت منذ رئاسة ويدرو ويلسون (1913-1921)، إذ بدأ الرؤساء الأميركيون بإلقاء الخطاب مباشرة أمام الكونغرس. ومع اختراع الراديو والتلفزيون، أصبح هذا الخطاب من أقوى المنصات السياسية التي يملكها الرئيس. بمعنى أن خطاب "حالة الاتحاد" كان يفترض، دستورياً، أن يكون تعبيراً عن الحالة الوطنية ومناعة الأمة الأميركية، إلا أنه مع الوقت تحول إلى خطاب سياسي، يعبر عن التنافس الحزبي، وأرضية تمهيدية للانتخابات، وصولاً إلى تحوّله اليوم إلى منصّة لتعميق الانقسام السياسي والشرخ المجتمعي. لذلك لا عجب أن ثمّة من اعتبر ما جرى في خطاب "حالة الاتحاد" الأخير "وصمة عار" في التاريخ الأميركي. الأخطر من ذلك، قد يكون في ما تحمله هذه المؤشّرات في أحشائها، وتكفي هنا الإشارة إلى تغريدة ترامب على "تويتر"، الأربعاء الماضي، بعد تبرئة مجلس الشيوخ له، والتي تلمّح إلى أن الحالة "الترامبية" ستبقى تحكم أميركا عقودا طويلة. إذا كان ذلك هو الحال، فليست أميركا وحدها ستكون على موعد مع كارثة، بل العالم كله.