البرهان والرهان السوداني الخاسر

البرهان والرهان السوداني الخاسر

06 فبراير 2020
+ الخط -
جاءت أنباء، قبل أيام، عن مكالمة هاتفية جرت بين وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، تضمنت دعوة من الحكومة الأميركية إلى الأخير لزيارة واشنطن. أثار خبر المكالمة موجة من التكهنات في السودان، وخصوصا أنه جاء بعد أيام قليلة من إعلان الرئيس الأميركي ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو صفقتهما للسلام في الشرق الأوسط. تساءلت التكهنات عن أسباب الحب الأميركي المفاجئ للبرهان، ولا سيما أنه جاء في خضم الارتباك الحادث في الخرطوم جراء الضائقة المعيشية للسودانيين والوضع الاقتصادي الذي يزداد سوءا. وكانت التكهنات تسير في اتجاه الأمل المتجدّد بأن الدعوة الأميركية تشي بدعم أميركي للسودان ورفع كامل للعقوبات، وربما إلغاء تام للديون عليه، ثم دخول المؤسسات المالية الدولية إلى السودان، على ضوء رفع الحظر الأميركي المفروض منذ ولاية الرئيس بيل كلينتون. سوقت لهذا الحلم جيدا حكومة عمر البشير لتبرير فشل سياساتها الاقتصادية المدمرة، وجعلت السودانيين يحلمون برفع الحصار في مقابل العلاقة مع إسرائيل. وقد أصبحت هذه الدعوة حديث المجالس، بأمل تبدل في الموقف الأميركي تجاه السودان ما بعد الثورة، وفتح صفحة جديدة معه. 
وعلى خلفية الإعلان عن "صفقة القرن"، والموقف العربي المزدوج من مباركة خفية ورفض علني، ووضع معيشي واقتصادي متدهور وأكثر تعقيدا داخل السودان، تبدل الحلم من زيارة مرتقبة للبرهان إلى واشنطن، ليتضاءل ويحطّ الرحال عند عنتيبي، على ضفاف بحيرة فيكتوريا في أوغندا، في يوم الثالث من فبراير/ شباط الحالي. وكانت الخرطوم تتابع تواتر الأخبار من مصادرها الإسرائيلية بشأن اللقاء الذي تم بين البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو هناك. ولم يجد الناس في الخرطوم الرسمية إجابة عن التساؤلات بشأن ما يجري، حتى بدا واضحا أن اللقاء جرى الترتيب له بعيدا عن أعين الحكومة السودانية، وحتى عن مجلس السيادة الذي يرأسه البرهان، فتم بعيدا عن علم القوى السياسية، بما في ذلك قوى الحرية والتغيير، حاضنة الحكومة 
والمؤسسات في السودان اليوم. وأكد بيان وحيد صدر عن الحكومة على عنصر المفاجأة، لكنه جاء مهادنا متسامحا مع فعلة البرهان "إن الحكومة علمت بالاجتماع من وسائل الإعلام". و"لم يتم التشاور معنا في مجلس الوزراء بشأن هذا اللقاء". وانتظرت الحكومة "التوضيحات" إلى حين عودة رئيس مجلس السيادة. وتجنبت اتخاذ موقف واضح بقدر جسامة الحدث وجاء حديثها باردا. وحتى تعليق رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، على صفحته في "فيسبوك"، كان أكثر برودا وهدوءا، معتمدا أسلوب البيروقراطية المكتبية "على الهياكل الانتقالية ككل ضمان المساءلة والمسؤولية والشفافية في جميع القرارات المتخذة". مشدّدا على "التمسّك بالوثيقة الدستورية إطارا قانونيا في تحديد المسؤوليات، والالتزام بما تحدّده من مهام وصلاحيات". واختار حمدوك نهاية مدهشة، مرحبا بالبيان الذي أصدره البرهان "نرحب بالتعميم الصحافي لرئيس مجلس السيادة الانتقالي حول اجتماعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي". وبعد بيان حكومي باهت، يكتب وزير الإعلام والثقافة، فيصل محمد صالح، على صفحته في "فيسبوك"، محددا موقفه بقوله "إن أخذ رئيس مجلس السيادة أمر العلاقات الخارجية للسودان بيده، والتقرير فيها بشكل متفرد، فيه خرق للوثيقة الدستورية، وتجاوز لاختصاصات الجهاز التنفيذي". ثم يشير إلى تجاوز البرهان للموقف السوداني الثابت بعدم التطبيع مع إسرائيل، وإنه لا علاقات إلا بعد الإقرار بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ويعبر الموقفان الصادران عن رئيس الحكومة حمدوك، والوزير فيصل محمد صالح، عن الموقف الملتبس في العلاقة بين مكونات مؤسسات المرحلة الانتقالية في السودان، والمتهمة من الشارع بالبعد عن نبضه الثوري.
وتطرح التساؤلات الرسمية وغير الرسمية للحكومة، من رئيس الوزراء ووزير الإعلام، تساؤلاتٍ أكثر بشأن قرار البرهان نفسه، ما إذا كان نابعا من قناعةٍ شخصية، أم هي قناعة أمليت عليه من جهات أخرى، داخلية كانت أم خارجية؟ وكم من الوقت استغرق التنسيق لهذا اللقاء، وما هي الجهات التي أعدت له؟
وطالما أن الجهات الحكومية في السودان ادعت عدم معرفتها بأمر اجتماع البرهان ونتنياهو، وباعتبار أن الترتيب للقاءٍ كهذا يتطلب جهدا وتنسيقا، ليس في وسع البرهان وحده القيام بهما، فإن تشابها يبرز بين هذا الاجتماع المُدان وزيارة الرئيس المخلوع، عمر البشير، المفاجئة إلى دمشق، في ديسمبر/ كانون الأول 2018، وكانت المؤشرات قد ذهبت إلى دور إماراتي في ترتيب تلك الزيارة. ويتكرّر الأمر الآن مع البرهان الذي بدا منفذا عاطلا من الموهبة. والذي يحسن التذكير به، في مسألة لقائه نتنياهو، بأن القانون السوداني الخاص بمقاطعة إسرائيل، والصادر في 1958، يجرّم صراحة التعامل مع إسرائيل، ويحظر على أي شخص عقد اتفاق من أي نوع من الهيئات، أو الأشخاص المقيمين في إسرائيل.. إلخ. وحدد القانون العقوبة بالسجن مدة قد تصل إلى عشر سنوات.
ويعزّز من احتمال فرضية يد أجنبية طولى في تدبير اجتماع عنتيبي أن وثيقة الفترة الانتقالية في 
السودان حصرت العلاقات الخارجية بيد الجهاز التنفيذي تماما. ومن هنا، أملت هذه اليد على عبد الفتاح البرهان أمرا غابت فيه المعرفة بالبعد القانوني الداخلي، أو لم تكترث له أصلا في واقع سيولة الدولة السودانية الحالية. والأرجح عند كاتب هذه السطور أن البرهان تنكّب بلا بصيرة السبيل الذي سبقه إليه سلفه عمر البشير، كما سبقهما الرئيس الأسبق جعفر نميري الذي التقى أرييل شارون في مومباسا (في كينيا) بوساطة عربية أيضا، يشتركون جميعا في أنهم من العسكر. وثلاثتهم سيطرت عليهم فكرة الخروج من الوضع الاقتصادي الذي ظل السودان يعيشه، فعولوا على المغامرة في المجهول الصهيوني بالتبعية مقابل الدعم المالي والاقتصادي. والمرجح أن المغريات التي وضعت أمام البرهان في عنتيبي تتعلق برفع فوري للسودان من قائمة دعم الإرهاب الأميركية، وإلغاء الديون، وتقديم الدعم الاقتصادي والمالي، وتدفق الاستثمارات، وتحويل السودان جنة. وبذلك يقاد البرهان من المصادر نفسها وبالدوافع نفسها، فنجده يستخدم المنطق العاجز نفسه، في بيانه الموضح حقيقة لقائه مع نتنياهو: "قمت بهذه الخطوة من موقع مسؤوليتي بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني السوداني، وتحقيق المصالح العليا للشعب السوداني".
ويتشابه موقف البرهان هنا مع مواقف دول عربية أعلنت عنها في الاجتماع الوزاري لجامعة الدول العربية في القاهرة الأسبوع الماضي، دانت "صفقة القرن" من جهة، واعتبرتها من جهة ثانية نقطة يمكن البناء عليها، وهذا عبد الفتاح البرهان يرى في اجتماعه مع نتنياهو "غيرة وطنية وحرصا على مصالح الوطن". وفي حقيقته، يمثل موقف البرهان خطوة متقدمة للمطالبة في السودان بالاعتراف بإسرائيل، والتي أطلق عليها نظام البشير "تطبيع العلاقات مع إسرائيل"، فقد أعلن وزير الخارجية الأسبق، إبراهيم غندور، في يناير/ كانون الثاني 2016، أن السودان يمكن أن يدرس مسألة التطبيع مع إسرائيل، واعتبر قوله ذلك وقتها، وبعد نفيه، زلة لسان واستنباطا صحافيا لئيما، ولكن تصريحه جاء في سياق موقف عام للحزب الحاكم وتوجه إلى إقامة علاقة مع إسرائيل. كما أن وزير الخارجية الأسبق، مصطفى عثمان إسماعيل، شأن وزير الاستثمار الأسبق، مبارك الفاضل المهدي، ربطا بشكل أكثر وضوحا دوافع العلاقة الإسرائيلية معبرا نحو حلحلة مشكلات السودان الاقتصادية، فتحدث عن السودان بوصفه "أحد أفقر ثلاثين دولة"، ليصل إلى غايته "من الطبيعي أن ندرس التطبيع مع إسرائيل"، مع الإقرار بأن "التطبيع مع إسرائيل فيه مضرّة للسودان".
وإذا كان مبارك الفاضل المهدي أكثر إفصاحا وجرأة وتهورا من سابقيه، فقد وصف لقاء البرهان مع نتنياهو بأنه "جريء وشجاع، ويمهد لرفع العقوبات الأميركية عن البلاد، ويرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب". وفي الواقع، يتحدث مبارك المهدي حديث العارف بخلفيات 
تحرّك البرهان، ويحسب المترتبات بشكل واضح "ستفتح الطريق لإعفاء السودان من الديون، إعادة علاقات السودان بمؤسسات التمويل الدولي لتمويل التنمية، تحقيق السلام والاستفادة من التقنيات الزراعية الإسرائيلية في تطوير قطاع الزراعة والري في البلاد". هل حديث مبارك الفاضل المهدي مجرد مصادفة أم أنه مستقى، حرفا بحرف، من الفكرة القديمة التي قادت الصديق المهدي (والد الصادق المهدي) موفدا من والده عبد الرحمن المهدي إلى الالتقاء بمسؤول إسرائيلي في لندن في العام 1954، بزعم الاستفادة من خبرة إسرائيل الزراعية.
ماذا بعد؟ الثابت أن لقاء عنتيبي كان معدّا له جيدا، ومحسوبة نتائجه مسبقا مع اعتبار أن الضائقة المعيشية، والتي ثبّت النظام السابق في وجدان سودانيين كثيرين بأنها نتاج للحصار الأميركي على بلدهم، وأن من خطوات التخلص من مسببات الحصار تعاون السودان مع الولايات المتحدة بتسليم مطلوبين تصنفهم الولايات المتحدة إرهابيين، ثم قطع علاقاته مع إيران، ثم تحجيم وجود حركة حماس بالسودان، وانتهى الأمر بالحديث علنا عن إقامة علاقة مع إسرائيل. على أن الطريق الذي يسير عليه عبد الفتاح البرهان اليوم مختلف تماما، أولا لأن الوثيقة الدستورية لا تمنحه صلاحيات التعاطي في السياسة الخارجية. كما أن ما انتهى إليه اللقاء من اتفاقات هي في مهب الريح، فلا الحكومة طرف فيها، ولا قوى الحرية والتغيير التي دانت اللقاء، وأعلنت وقوفها مع الحق الفلسطيني، ستقبل أي اتفاق هي ليست طرفا فيه، وخصوصا أنها أكدت أنها "مع حق الشعب الفلسطيني في العودة ودولته المستقلة، ونقف ضد أي انتقاص من حقوقه العادلة".
والمرجح أن نتنياهو يدرك أكثر من البرهان أن مبتغاه من هذا اللقاء لا يعدو أن يكون فرقعة إعلامية ضخمة بلا أرضية حقيقية لتجسيدها على أرض الواقع، فمن غير المتوقع أن يتغير شيء في السودان ما بعد ثورة ديسمبر، إذ ترفض القوى السياسية، على اختلاف توجهاتها، فكرة العلاقة مع الدولة العبرية. ومن هنا يطرأ السؤال: كيف سيتم التعامل مع البرهان نفسه في مقبل الأيام، إذ لا يكفي أن تنحصر المساءلة في بياناتٍ ضعيفة ومبرّرات حكومية واهية، فالقضية أكبر بكثير من مجرد لقاء عابر؟
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.