في الوصول إلى صفقة القرن

في الوصول إلى صفقة القرن

05 فبراير 2020
+ الخط -
عكس قرار وزراء الخارجية العرب الصادر عن اجتماعهم في مجلس جامعة الدول العربية في القاهرة السبت الماضي، رفض صفقة القرن وتنفيذها بالقوة، حقيقة الموقف العربي من القضية الفلسطينية وموقعها على جدول اهتمامات الأنظمة العربية وأولوياتها، فالقرار العتيد، بصيغته ومحتواه، ليس أكثر من ورقة توتٍ تستر عورة هذه الأنظمة التي استثمرت في مأساة الشعب الفلسطيني، ووظّفتها غطاء لسياساتها وقراراتها الداخلية غير الشعبية، من السياسة المالية إلى الاقتصادية والأجور والبطالة وفرص العمل؛ والاستئثار بمعظم المنافع المادية وتوزيعها على العصبيات الخاصة من الأسر والقبائل والطوائف والحاشية التابعة، إلى الحريات العامة والخاصة، مرورا بالخدمات الصحية والتعليمية، حيث حوّلت القضية الفلسطينية إلى قميص عثمان تبرّر به تسلّطها ونهبها وفشلها، من جهة، وتلجم به النقد والمطالبة بالحقوق والحريات، من جهة ثانية، فالقرار الجديد لم يختلف عن عشرات القرارات السابقة التي تأتي بصيغة عامة من دون تحديد خطوات أو إجراءات واضحة أو آلية تنفيذية وجدول زمني محدّد، مع ملاحظة أنه غير ملزمٍ، على خلفية القاعدة والعُرف السائدين في الوسط الرسمي العربي بمنح كل دولة حق تطبيق القرار أو عدم تطبيقه وفق خياراتها الذاتية. لذا لم يكن مفاجئا أن دولا عربية أشادت بالجهود الأميركية، ودعت السلطة الوطنية الفلسطينية إلى دراسة المبادرة والدخول في مفاوضاتٍ مباشرة مع إسرائيل للتوصل إلى اتفاق "سلام" (مصر، السعودية، الإمارات، البحرين، والمغرب) متجاهلين شروط الصفقة العتيدة ومحدداتها ونتائجها الخطيرة على الحقوق الفلسطينية.
لم يأت الموقف العربي الجديد فجأة، أو من دون مقدمات، فقد مهدت له مواقف وممارسات راكمت تحولاتٍ في المشهدين، السياسي والميداني، بدءا من محاولات احتواء حركة التحرير 
الوطني الفلسطيني (فتح)، والعمل على استتباعها وتدجينها بتحويلها إلى كيانٍ من كيانات النظام الرسمي العربي؛ ذلك لأن بقاءها حركة ثورية مستقلة يتعارض مع سياسات الدول العربية؛ يثير هواجسها، ويفتح بابا للشعوب العربية للتمرّد على كياناتها الهزيلة. وقد جاءت محاولة التدجين الأولى على أيدي النظام السوري عام 1966 عبر التخطيط للسيطرة على تحرّكات "الحركة" وقراراتها وتسليحها، تلاه إغواء "الحركة" بتسلّم منظمة التحرير الفلسطينية التي أنشئت عام 1964 لتمثل الشعب الفلسطيني لدى المجتمع الدولي؛ وهذا ما حصل عام 1969، وتم به دخول "الحركة" دائرة النظام الرسمي العربي، وباتت تحت سيف التدجين والتوجيه الذي أخذ صوراً وأنماطاً عدة من تقييد حركة القادة واغتيال بعضهم إلى مصادرة شحنات الأسلحة، مروراً بتجفيف الموارد المالية وقطع الدعم المالي والعسكري، وصولاً إلى تشجيع الانشقاقات داخلها، وتشكيل منظمات منافسة، "الصاعقة" السورية و"جبهة التحرير العربية" العراقية و"الهيئة العربية العاملة لتحرير فلسطين" المصرية، من أجل دفعها في مساراتٍ محدّدة، تنسجم مع سياسات الأنظمة العربية، واستمرار فرص اللعب بالقضية الفلسطينية، واستثمارها في التغطية على سياساتها وممارساتها ضد الشعوب العربية. وهذا جرى عام 1970 بضغط مصري لدفعها لقبول المبادرة الأميركية المعروفة باسم مبادرة روجرز (وزير الخارجية الأميركية آنذاك)، من النظام المصري، قابلته ضغوط من نظامي "البعث" في سورية والعراق، التي تنافس الرئيس المصري جمال عبدالناصر على الزعامة العربية، وتسعى إلى ضرب شعبيته وعزله سياسيا، لرفضها، ودعم النظام البعثي في العراق النظام الأردني في حربه على العمل الفدائي في أيلول الأسود 1970، وإخراج الفدائيين من الأردن إلى لبنان، وتشكيل جبهاتٍ معارضةٍ من منظمات فدائية "يسارية" منافسة، جبهة 
الرفض، ضد "اليمين" الفلسطيني المتنفذ، حركة فتح، إلى دعم النظام السوري القوى الانعزالية في لبنان في حربها ضد منظمة التحرير عام 1975، والوقوف في صفوف المتفرّجين خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وإخراج قوات المنظمة إلى دول عربية بعيدة عن أرض فلسطين عام 1982...
غيض من فيض الدور المباشر الذي لعبته أنظمة عربية "تقدّمية" لاحتواء حركة فتح وإضعافها، ودفعها في مسارات تخدم سياسات هذه الأنظمة. أما الأنظمة العربية "الرجعية" المسمّاة كذلك من الأنظمة "التقدمية"، فلعبت لعبة أخرى أساسها الازدواجية، موقف في العلن وآخر نقيض له في السر، من نوع اللعبة التي رواها الكاتب الأميركي، روبرت كابلان، في كتابه "المستعربون" قال: "عندما قرّر وزير الخارجية الأميركية، هنري كيسنجر، بُعيد وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، زيارة عواصم عربية؛ لتثبيت وقف إطلاق النار والتمهيد لمفاوضات عربية إسرائيلية؛ استبق زيارته للعاصمة السعودية، الرياض، بلقاء السفير الأميركي هناك، هيرمان إيلتس، وطلب منه المشورة حول سبل التعاطي مع ملك السعودية، فيصل بن عبدالعزيز، المعروف بمعاداة اليهود، وفق معلوماته، في ضوء كونه يهودياً، فكان جواب إيلتس: "كل ما هنالك عليك أن تدع فيصل يتكلم، ويتكلم، ويتكلم، وسوف يحاضر عن المؤامرة الصهيونية وما إلى ذلك. وما عليك إلا أن تسمع بهدوء وأدب وبعد ذلك، ستأتي لحظة يشير فيها فيصل إلى كاتب المحضر بأن يغادر هو وسجله المكان؛ فتلك هي نسخة الاجتماع التي سوف تُرسل إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد ذلك تستطيعان، فيصل وأنت، أن تتحوّلا إلى الكلام الجاد والتعاون المفيد" (كتاب "المستعربون" لروبرت كابلان، ص 315، ترجمة محمد الخولي للكتاب تحت عنوان "الحملة الأميركية: مستعربون وسفراء ورحالة". دار الهلال، يونيو/ حزيران 1996). أو ما عكسته وقائع زيارة وفد من حركة 
فتح، برئاسة خليل الوزير (أبو جهاد) إلى الإمارات عام 1981 واجتماعه مع الشيخ زايد آل نهيان، وحديث الأخير عن لقائه رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت تاتشر، خلال زيارتها الإمارات، وأنه طالب وألح على قيام دولة فلسطينية على حدود 1967؛ ونادى على كاتب محاضر اجتماعاته، سرور، طالبا منه إحضار سجل المحاضر وقراءة محضر اجتماعه مع تاتشر على مسامع أبي جهاد، وعندما قرأ المحضر لم يكن فيه ما قاله عن مطالبته بدولة فلسطينية، فطلب منه أن يضيف إلى المحضر ما سبق وقاله لأبي جهاد عن مطالبته وبإلحاح بقيام دولة فلسطينية على حدود 1967.
وتنفتح معظم دول مجلس التعاون الخليجي سرّا وعلنا على إسرائيل. ويتحول الانفتاح إلى علني بصورة مضطردة، في ضوء معطيات اللحظة الراهنة التي ترتبت على الدور الإيراني التدميري في دول من المشرق العربي ومشروعها للهيمنة والسيطرة وتحوّلها في نظر السعودية والإمارات والبحرين إلى العدو القومي الوحيد للعرب، ووقوفها في صفّ واحد مع إسرائيل، وانخراطها في تعاونٍ وتنسيق معها لمواجهة الخطر المشترك: إيران، حتى لو جاء هذا التعاون على حساب الشعب العربي الفلسطيني، وحقوقه المشروعة المعترف بها دوليا في قراراتٍ صادرة عن هيئة الأمم المتحدة. وهذا، ومثله كثير، خلفيته ما قاله المفكر اللبناني منح الصلح في تعليقه على الدعم السوري لقوات الكتائب والمردة وبقية القوى الانعزالية في حربها على "المنظمة" عامي 1975 – 1977، "لأن عرفات يقاتل إسرائيل".
ارتبطت المقاربة الأميركية الجديدة بعوامل أميركية وإسرائيلية وعربية، فالإدارة الأميركية الجديدة، الابنة الشرعية لزواج الواسب، الأنكلوسكسون البيض البروتستانت، والمحافظين الجدد، هي الأقرب إلى الموقف الإسرائيلي، علما أن الولايات المتحدة كانت، ولا زالت، متبنيةً المشروع الصهيوني من البداية، فقد أصر الرئيس الأميركي، ودرو ويلسون، على إضافة كلمة القومي في نص وعد بلفور، كانت صيغته إقامة وطن لليهود، فأضاف كلمة قومي، ليعني الوعد إقامة دولة وليس مجرّد مكان للسكن، ورغبة إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية باستثمار الفرصة. العرب ضعفاء وممزقون، وإيران غارقة في معارك في أكثر من ساحة، العراق وسورية ولبنان، دفاعا عن استثمارها السياسي والعسكري والمذهبي. والسلطة الوطنية الفلسطينية أسيرة عوامل ذاتية وفلسطينية، فقدان الصدقية والتآكل الداخلي، واستهداف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) المشروع الوطني الفلسطيني على مذبح سعيها إلى الهيمنة والسيطرة على "القضية"، وإلى قيادة الشعب الفلسطيني الذي جسّده انقلابها على السلطة وحركة فتح، وانفرادها بإدارة قطاع غزة منذ العام 2007، وحصار عربي ودولي خانق حدّ من قدرتها على القيام بأبسط واجباتها كسلطة: دفع الرواتب وتمويل الخدمات، وشلّ قدرتها على التحرّك والمناورة. حالة وصفها نائب رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، الباحث الأميركي، جوناثان شانزر، بقوله: "تلقى الفلسطينيون أكثر من دعوة للاستيقاظ على مدار العامين الماضيين مع تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، سيما بين الدول العربية السنّية، وأن تكتيكات الدول العربية المزعومة مع ترامب عبر الدعم الضمني لخطته يجب أن تكون جرس إنذار أن هذه الدول لا يمكن الاتكاء عليها الآن، أو في المستقبل".
في الختام، ثمّة خطر إضافي في "الصفقة"، فحديثها عن "سلام" إسرائيلي - فلسطيني مع فرض شروط ومحدّدات إسرائيلية صرفة تجعل الوصول إلى أي اتفاقٍ في حكم المستحيل، بمثابة طوق نجاةٍ لأنظمة عربية محاصرة من الشعوب، وفرصة للعودة إلى الشعار المخادع: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وقبلة حياة للمشروع الإيراني الذي يواجه رفضا شعبيا في أكثر من ساحة عربية، بما في ذلك من مجتمعاتٍ شيعيةٍ وازنةٍ في العراق ولبنان، وتراجعا في شعبيته في العالمين، العربي والإسلامي، على خلفية دور إيران ومليشياتها الطائفية في زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى والحروب الطائفية وقتل العرب من دون تمييز بين شيخ أو امرأة أو طفل، بدعاوى طائفية وانتقامية، وفرصة لحرف الأنظار عن ذلك كله، وتسويق موقفها من السياسة الأميركية في المنطقة، ومشروعية الدعوة إلى إخراجها منها بربطه بالدفاع عن الحق الفلسطيني.