ضبط الثقافة لخدمة السلطوية في مصر

ضبط الثقافة لخدمة السلطوية في مصر

05 فبراير 2020

(معمّر مكي)

+ الخط -
مبهجٌ ويستحقُّ الاحتفاء أن يقترب عدد زوار معرض القاهرة الدولي للكتاب الدولي من ثلاثة ملايين، بما يعني أنه ما زال للكتاب والثقافة منزلتهما في مصر، على الرغم من ارتفاع أسعار الكتب الذي يرجع جزء منه إلى زيادة تكاليف إنتاجها، إضافة إلى ما طرأ على الأجور والدخول من انخفاض، نتاج سياسات اقتصادية، منها تعويم الجنيه، وزيادة أسعار الخدمات. وهذه أعباء تركت آثارها على المواطن المصري، ما استدعى إعادة ترتيب أولويات الإنفاق عند بعضهم. كما أن إقبال الزوار على المعرض في دورته أخيراً جاء على الرغم من محاولات تهميش الثقافة، وتأميم المجال العام، ما يشير إلى روح نابضة للشعب المصري، فالقراءة والخروج في الفضاءات العامة دليل حيوية بل ومقاومة، بما يحملانه من رغبةٍ في الاطلاع والفهم والحوار والاشتباك مع مجالات الثقافة. وللموضوعية، اتسم المعرض بالتنظيم إلى حد بعيد، وجذب كثيرين، على الرغم من بعده وأن الوصول إليه غير يسير، وربما يمثل لبعضهم رحلة سفر، والوصول إليه يتطلب من بعضهم مشقة استخدام وسائل مواصلات متعدّدة.
وكان قد تم نقل معرض الكتاب، العام الماضي، من أرض معارض مدينة نصر إلى مركز المعارض الدولية، بتبرير أن المكان القديم لم يعد صالحا، وهذا صحيح في جانب منه، ولكن لم توضح أسباب اختيار المكان الجديد، البعيد عن القاهرة، وصعوبة الوصول إليه، ولماذا لم توجّه
 الدولة قدراتها في تجديد (أو إعادة تخطيط) مكان إقامة المعرض القديم، لتتناسب منشآته وتليق بالمعرض كما المقر الحالي، أو تحتار مكانا آخر في قلب القاهرة.
برّر وزير مصري سابق للثقافة النقل بأسباب مشابهة. وردّا على تلميحاتٍ عن تبعية المكان للقوات المسلحة، قال إنه في النهاية تابع لإحدى هيئات الدولة. ورأى، في سياق مشابه، ولكن بعد خروجه إلى التقاعد، أن أحد أبرز التحدّيات التي واجهت الدولة تاريخيا خلال معرض الكتاب، محاولة استغلال جماعات سياسية له. وفي هذا السياق، تصبح رؤية الدولة للتعامل مع أحد تجليات الثقافة المصرية وفاعلياتها مجسّدة في مقولات رجالها، أي أنها تثبت التحليل القائل إن نقل المعرض جاء ضمن سياقات ضبط الدولة المشهد الثقافي، وأحيانا تهميشه، وهو ما يمكن تلمسّه في دورة معرض الكتاب العام الحالي، والتي اختفت فيها مظاهر التنوع والسجال الفكري والسياسي، والتي كانت ميزة لمعرض القاهرة، حتى قبل اندلاع ثورة يناير ضد نظام حسني مبارك. كانت فاعلياته الرسمية تمثل ساحة للتفاعل، وتشهد سجالاتٍ في الفكر والسياسة. وشهد المعرض، في سياقات غير رسمية، فاعليات سياسية، مظاهرات عدة، تطالب بالتغيير السياسي، كمظاهرات 
الحملة الشعبية للتغيير وحركة كفاية (الحركة المصرية من أجل التغيير، وفاعليات التضامن مع الشعب الفلسطيني. وكان للمثقفين في المعرض دور في مناهضة التطبيع مع إسرائيل، فقد شهد في يناير/ كانون الثاني 1981 مظاهرة رافضة لمشاركة دولة الاحتلال فيه، واستمرت جهود مواجهة التطبيع الثقافي، حتى أنهت رغبات المطبعين وإسرائيل في التمثيل في معرض الكتاب بشكل نهائي، بعد محاولاتٍ دامت عامين. ولعب مثقفون وطنيون، انتظم معظمهم في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، دوراً مهماً، وكانت الواقعة التي شهدها معرض الكتاب محطة رئيسية لمواجهة التطبيع.
لم تُذكر، في دورة معرض الكتاب أخيرا، قضايا التغيير السياسي محليا أو إقليميا، ولا حتى أفريقياً، على الرغم من الاحتفاء الشكلي بأفريقيا، ولم تكن الثورتان، السودانية والجزائرية، محل اهتمام أو نقاش، وخفتت القضايا السياسية عموما. وباستثناءات ضئيلة، لم يتم تناول ثورة يناير، منها ندوة للمفكر الاقتصادي، جودة عبد الخالق، والذي أبدى فيها دفاعا عن ثورة يناير، في أثناء مناقشة كتابه "من الميدان إلى الديوان"، بينما شهد المعرض وجودا مكثفا لوجوه 
إعلامية معروفة بدفاعها عن مظاهر السلطوية، متحصّنة خلف شعارات الحرص على الدولة، ومواجهة الإرهاب، تهاجم حركات الشعوب وتشوهها، وتعتبرها مؤامرة، وإعادة تموضع للفوضى. وبينما كان المعرض، في سنوات مضت، يحمل قدرا من التنوع، يتناسب مع المرحلة السياسية، كانت دورة العام 2012 احتفاء بثورتي تونس ومصر. وفي العامين اللاحقين، انعكس الصراع السياسي والفكري على فاعليات المعرض وأنشطته، ثم انتهى هذا المشهد، في محاولةٍ لفصل الثقافة عن المجتمع، وفرض ثقافة القبول والإذعان، الصوت الواحد، الدعاية المكثفة. لا مكان سوى لأطروحاتٍ ترضي النظام، وتدافع عنه، وتبرّر مثالبه، وتضخّم إنجازاته، ذلك لأن الثقافة، بالنسبة للنظم السلطوية، أداة لخدمتها والدعاية لها.
ضبط المشهد الثقافي واحتلال النظام مساحاته مجسّد في برنامج معرض القاهرة الدولي للكتاب وفاعلياته، وفي مقرّه الجديد، ومن يشارك من دور النشر، ومن محظور عليه المشاركة. تتجلى آليات التحكّم، حتى في أبسط التفاصيل، كالصورة الضخمة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والتي احتلت مساحة تزيد على ثلثي ارتفاع القاعة الثالثة. وهذه الملاحظة، وإن كانت عابرة، إلا أنها تعبر عن الذهنية التي خلفها. السلطة لا تريد أن تستخدم الثقافة لصالحها أو فقط تحيدها، ولكنها تدمغها رمزيا وماديا أيضا. معرض الكتاب، بفاعلياته ومظهره، مثل غيره من أنشطة الثقافة ومظاهرها ومنتجاتها. يُراد لها أن تكون واجهة للنظام، منضبطة، تحدّد من ينتج ومن يبدع ومن يشارك في المعارض والفاعليات الثقافية والفنية، فاعليات مسيّرة بشكلٍ شبه كامل، ومحكومة بتصوّرات لا تقبل الاختلاف والتنوع، حتى وإن رفع معرض الكتاب شعار مصر أفريقيا ثقافة التنوع.
ينسحب ما جرى في المعرض على مختلف مظاهر الثقافة والإبداع والفنون، منها الإنتاج السينمائي والدرامي، والذي تستحوذ عليه شركة تابعة لرموز السلطة، وتتحكّم في المنتج الفني ومضمونه، وتزيح آخرين، وتمنعهم، بطرق عدّة، من أن ينتجوا شيئا مغايرا. طريقة للتعامل مع الملف الثقافي ترتكز على استبعاد السلطة من لا يدور في فلكها، مع التضييق على المختلفين على الأقل، والاستحواذ على الفضاء العام عموما، ومنه الإنتاج الثقافي، لتكون مخرجاته في خدمتها. وهذه واحدة من مشاهد خنق الإبداع ضمن سلسلة التضييق على الحريات. وبهذا يخسر المشهد الثقافي المصري إحدى أهم سماته، وهي التنوع والثراء والجدل بين مكوناته، والتي تمثل جانبا من شخصية مصر التاريخية المميزة التي يحتفي بها أهلها ومحبّوها.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".