العراق وفلسطين .. الشجى يبعث الشجى

العراق وفلسطين .. الشجى يبعث الشجى

05 فبراير 2020
+ الخط -
اقتحم صمتي سؤالٌ مثيرٌ من صديق على "فيسبوك": "أراك في شغل شاغل عن الهم العربي الأكبر والأكثر فداحة، هم فلسطين، صحيح أنك منشغل بهموم العراق، ولكن لفلسطين عليك أكثر من حق". كتبت له: "دعني أذكّرك بواقعة متمم بن نويرة، عندما قدم إلى العراق، بعد فقد أخيه مالك، وكان يطوف بين القبور. وبحسب ما روته الكتب، كان لا يصل إلى قبر إلا ويبكي عنده، فقيل له: يموت أخوك في الملا وأنت تبكي على قبر في العراق، أجاب شعرا: 
لقد لامني عند القبور على البكا/ رفيقي لتذراف الدموع السوافك/ أمن أجل قبر بالملا أنت نائح/ على كل قبرٍ أو على كل هالك/ فقال: أتبكي كل قبر رأيته/ لقبر ثوى بين اللوى والدكادك/ فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا/ فدعني، فهذا كله قبر مالك.
هكذا نحن اليوم، أشجاننا فائضة في كل عاصمةٍ من عواصمنا، بل وفي كل مدينةٍ من مدننا، وبعض من هذه الأشجان في العراق، وهو كثير وفادح، هل بلغك أن أشجاننا تبدأ في مقابرنا ولا تنتهي، وقد أصبحت مقابرنا على مد النظر؟ ليس في ذلك مبالغة أو غلو، يكفي أن تحسب عدد الشهداء الذين قتلتهم "المليشيات" هناك في المئة والعشرين يوما الأخيرة فقط، كي تتوفر لك الصورة بوضوح، إذ اقترب عددهم من السبعمئة، ولك أن تحسب عددا آخر سوف يلتحق بهم من بين أكثر من خمسة وعشرين ألف جريح، نصفهم ذوو جراح خطيرة، تقرّبهم من حد الموت. وإذ تعلم أن غالبية من استشهد كان في عمر الزهور، بعضهم في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من العمر، يمكنك أن تقدّر كم من الأحلام والطموحات كانت تغفو في رؤوسهم، وكم من الآمال التي علقها عليهم آباؤهم وأمهاتهم. وإذا ما اكتشفت أن أكثر من هذه الأعداد بين معتقل ومطارد، وأن أغلب هؤلاء وأولئك ينحدرون من أوساطٍ تتجذّر تحت خط الفقر سوف 
تتراءى لك، مجسّدة في بشر، مشاهد الجرائم والخطايا اليومية التي ترتكبها جيوش المليشيات التي تعتاش على الدم في بلدٍ تحكّمت به ثقافة الموت أزيد من ستة عشر عاما، ولا تزال.
ولك أيضا أن تعرف اليوم أن الطبقة التي حكمت بغداد طوال هذه السنين العجاف، تجاهلت مطالب أولئك الشباب الذين أرادوا استعادة وطنهم، بل إنها تآمرت وتوافقت على إبقاء سيوف الغدر مسلطةً عليهم، وتبادلت الأدوار في ما بينها، حتى استطاع فريق منها أن يسرق انتفاضة الشباب، ويعسكر في ساحاتهم، بعد أن أقصاهم عنها. راجع صفحات الشباب على مواقع التواصل، لترى أن أصحاب "القبعات الزرق"، هناك من يقول إن هذه القبعات صنعت في قم الإيرانية، يطوفون في أرجاء "ساحة التحرير" ويحتلون "المطعم التركي" الذي أعاد هندسته المنتفضون، وأطلقوا عليه تسمية "جبل أحد"، وحمّلوه لافتاتهم وشعاراتهم وأغنياتهم، وكذلك صور شهدائهم. وقد شرع محتلو الجبل في إنزال اللافتات التي ضمت شعارات المحبة والسلام والحرية، وفي العبث بصور الشهداء وتمزيقها، واستولوا على معدّات "راديو الانتفاضة"، ليوقفوا بث الأناشيد والأغنيات التي تمجّد وطنا يريد الشباب استعادته. وأيضا لك أن تُمعن النظر في ما هو أكثر إيلاما، أن تمتدّ أيديهم بالسكاكين الجارحة، كي يضربوا هذا الشاب أو ذاك ممن يحاولون إبلاغهم أنهم لا يُضمرون الشرّ لأحد، إنما هم فقط يريدون استعادة وطنهم.
في خضم هذه الأشجان المؤرقة، يعيش العراقيون كما السوريون الذين يخوضون حروبا أهلية يغذّيها الأعداء وكذا الأشقاء، كما اليمنيون الذين لم تعد عاصمتهم محط الحجيج الذين كانوا يقصدونها وإن طال السفر، وقد انصبت عليها حمم الدمار والخراب، كما الليبيون الذين تنازعتهم رياح القبائل، وقد أقامت كل واحدةٍ منها دويلتها الهجينة، كما الخليجيون الذين انقسموا بعدما أضاعوا أواصر جمعتهم ذات يوم، لكنهم أنكروها عند صياح الديك، كما غيرهم من العرب، عاربة ومستعربة، الذين لم تستطع ما قيل إنها "جامعتهم" أن تجمع كلمتهم على وعد يكفل لهم الحياة.
كل هذا الشجى يتجذّر في فلسطين التي ظلت صخرة صلدة تتكسر عندها النصال على النصال، وتحمل شجنها الفائض، كي تعيده إلى ذاكرتنا تماما، مثلما كان متمم بن نويرة يستذكر فاجعته بأخيه مالك. وفي طوافه بقبور العراق كان يبكيه عند كل قبر يمر به، كذلك نحن نفعل اليوم في العراق وفي غير العراق.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"