قبل جهيمان وبعده

قبل جهيمان وبعده

04 فبراير 2020
+ الخط -
لم يكن سرّا مكينًا أن قوةً فرنسيةً كان لها الإسهام الأهم في إنهاء سيطرة مجموعةٍ مسلحةٍ، أزيد من مائتي عنصر، بقيادة الرقيب أول السابق في الحرس الوطني السعودي، جهيمان العتيبي، على الحرم المكّي، واحتجازهم مصلّين وحجّاجا رهائن فيه، أسبوعين. ولكن حلقة برنامج "ما خفي أعظم" في قناة الجزيرة "جهيمان .. الرواية الأخرى" (تامر المسحال) كشفت عن تفاصيل كثيرةٍ مثيرة، موثّقة، وبعضُها مروّع، جرت في عملية تحرير الحرم وفكّ حصاره (1979). أهميتُها البالغة في أن قائد تلك القوة الفرنسية، وقنّاصا معاونا له، هما من يكشفان عنها. وكذلك في أن الرواية السعودية الرسمية لم تأتِ إطلاقا على المساهمة الفرنسية الحاسمة، وعبثت في حقائق غير قليلةٍ بشأن وقائع أسبوعيْ ذلك الحصار وإنهائه. وقد جاء الجهد في إنجاز مادّة البرنامج الناجح موفقا، سيما في إضاءته المتقنة على الحيثيات اللوجستية والميدانية والفنية، العسكرية والاستخبارية والأمنية، في ذلك الحدث المهول، والذي ما زالت سرديّته الذائعة في العربية السعودية، منذ أربعين عاما، تعدّه انعطافيا في المملكة، فما قبله غير الذي بعده، في أكثر من شأنٍ ومسألة. وهذا صحيحٌ نسبيا، من دون المبالغات الشائعة التي توحي وكأن العربية السعودية كانت بلداً آخر غير الذي صار بعد القضاء على مجموعة جهيمان. 
ولمّا كان الشيءُ بالشيء يُذكر، فإن حلقة "جهيمان .. الرواية الأخرى" تسوّغ مناسبةً لاستدعاء حزمةٍ من مفارقات الراهن والماضي القريب في العربية السعودية، لعل أهمها أن السلطة في هذا البلد، السياسية المسنودة بمؤسسةٍ دينيةٍ نافذة، مضت إلى تشدّدٍ مفرطٍ بعد موقعة اعتداء المجموعة الضالّة (حقا) على الحرم، فكأنها استجابت لبعض "مطالب" جهيمان. ولا يزيد صاحب هذه الكلمات في الطنبور وترا عندما يأتي بهذا الأمر، فهو كلامٌ يشيعه كثيرون من أهل الرأي في السعودية نفسها. وقد ذكر المرحوم جمال خاشقجي، مرّة، إن سياسيين سعوديين يقولون إن بلدهم بعد أن قضى على جهيمان تبنّى أفكارَه. ومن أرشيفٍ غير منسيٍّ، صدر، عقب القضاء على تلك المجموعة التي كانت بلا إسنادٍ اجتماعيٍّ عريض، أمرٌ ملكيٌّ يمنع ظهور النساء عموما في التلفزيون، قبل أن يقتصر المنع على شهر رمضان، ثم ينحصر في منع غناء المغنيات فيه. وقد قال ولي العهد في حينه (1980)، فهد بن عبد العزيز، لصحيفة السفير البيروتية، "إن هناك من يطالب الحكم بمزيدٍ من التشدّد، ويتّهمه بالتقصير إذ يسمح باستعمال التلفزيون..".
وحدهم المختصّون بالشأن الثقافي والاجتماعي السعودي أدرى بما إذا كان صحيحاً تماماً قول من قال إن النظام في المملكة، في مضيّه في التشدّد الديني، واستصداره الفتاوى التي تسنده في هذا، تبنّى كثيراً من "برنامج جهيمان"، لمّا فرض أصنافاً من الوصاية على المجتمع باسم تطبيق الشريعة، الأمر الذي كان من أسباب ظهور السلفيات الجهادية، واعتناق أفكار الإرهاب، كما نموذج "القاعدة" وغيره. ولمّا قال ولي العهد، محمد بن سلمان، في مارس/ آذار 2018، لصحيفة واشنطن بوست، إن المملكة استمرّت في نشر الوهابية بطلبٍ من الغرب لوقف المد الشيوعي إبّان الحرب الباردة، فإنه كان يؤشّر إلى وجهٍ آخر في موضوعة تبنّي الدولة التشدّد الديني العام، والذي كان من مظاهره منع المرأة من قيادة السيارة، وحرمانها من استصدار جواز سفر من غير إذن ولي أمرها، ومنع بث أغنيات المغنيات على شاشة التلفزيون، وغير ذلك من قراراتٍ وقوانين أُلغيت في الأعوام الثلاثة الماضية، إسنادا لتوجّهٍ انفتاحيٍّ يرسّمه محمد بن سلمان. وفي الأرشيف القريب، لمّا عاد بث أغنيات المغنيات (على أن لا تشتمل على أي سَفَه) على شاشة القناة السعودية الثقافية، اعتبر مدير القناة هذا الحدث "عودةً إلى الحياة الطبيعية التي كنا نعيشها قبل حركة جهيمان التي غيّرت مسار حركة المجتمع السعودي"، حسب تعبيره.
ومن مفارقاتٍ ظاهرةٍ أن جماعة جهيمان كانت تعادي الإسلاميين الإصلاحيين، وبلغ بها الأمر تكفير "الإخوان المسلمين". وهذا هو النهج الانفتاحي الراهن في المملكة، يُحتجز، في غضونه، دعاةٌ ومشايخُ إصلاحيون في السجون، وتُعتقل ناشطاتٌ نسوياتٌ ناضلن كثيرا من أجل قرارات كثيرةٍ تم اتخاذها أخيرا، ويتم تجريم جماعة الإخوان المسلمين.. هل يمكن الزعم إن ثمّةً قطبةً جهيمانية حاضرةً لدى صانع القرار السعودي، سواء تشدّد دينيا أو كان مرنا؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.