العرب و"المسألة الليبية" بعد مؤتمر برلين

العرب و"المسألة الليبية" بعد مؤتمر برلين

04 فبراير 2020
+ الخط -
على الرغم من نشاط الدبلوماسية الألمانية في التحضير لمؤتمر برلين بشأن ليبيا، والذي انعقد في 19 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، وتلته اجتماعات أخرى، إضافةً إلى زياراتٍ مهمّة قام بها مسؤولون رفيعو المستوى، فإنه لا تتوفر مؤشراتٌ واضحة على حلٍّ قريب لـ"المسألة الليبية". بل ربما تتحول أزمة ليبيا، بكل تفاصيلها وتشابكاتها المحلية والإقليمية والدولية، في الأشهر القليلة المقبلة، إلى صراعٍ دولي/ إقليمي شديد التعقيد، مثلما حدث مع أزمات/ قضايا استراتيجية عربية أخرى، بسبب ثلاثة عوامل متداخلة؛ أولها حالة الإرباك الحقيقية التي تسببت فيها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على الصعيدين العالمي والإقليمي، اقتصادياً وأمنياً وسياسياً. وثانيها زيادة تأثير العامل الخارجي، بشقّيه الدولي والإقليمي، إلى حدّ التحكم "شبه التام"، في مسارات العالم العربي. وثالثها تصاعد تأثير سياسات الثلاثي، السعودي المصري الإماراتي، في إفشال الموجة الأولى من الثورات العربية، ومن بينها ثورة 17 فبراير الليبية، ما أوجد حالةً غير مسبوقة من الاستقطابات العربية، يفوق بمراحل "الحرب الباردة العربية" في عقدي الخمسينيات والستينيات بين أنصار الرئيس المصري جمال عبدالناصر والمعسكر العربي المحافظ، المناهض للسياسات الناصرية. وفي هذا السياق، ربما يشكّل مؤتمر برلين بدايةَ مرحلةٍ شديدة الخطورة، بالنسبة للقضية الليبية خاصة،
ولمسارات العالم العربي عامة، وهو ما يمكن إجماله في ثلاث ملاحظات:
أولاها أن السياسة الألمانية تحمّست، ربما لأول مرة منذ عقودٍ طويلة، لكي تلعب دوراً قيادياً في قضيةٍ ما، خارج إطار القارة الأوروبية، وخارج نطاق مهامها المعتادة في حلف شمال الأطلسي. وعلى الرغم من زيارة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، موسكو، ولقائها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ثم تنسيقها مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وتشاورها مع العواصم الأوروبية الرئيسة، وكذلك مع تركيا لضمان نجاح المؤتمر، وقيام وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بزيارة سريعة إلى بنغازي، للقاء اللواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، على الرغم من ذلك كله، تجاهلت برلين دعوة المملكة المغربية التي وُقع فيها اتفاق الصخيرات في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015، وتأخرت في دعوة تونس، ما أدّى إلى اعتذارها عن عدم الحضور.
بيد أن الأهم من ذلك أن أغلب نتائج مؤتمر برلين قد تذهب أدراج الرياح، بسبب استمرار صراع الأدوار الدولية والإقليمية حول ليبيا، كما تكشفه ثلاثة مؤشرات؛ أولها غموض الموقف الأميركي في هذا الصدد، أخذاً في الحسبان، أن واشنطن تحاول عرقلة التفاهم الروسي التركي بشأن ليبيا، الذي قد يؤدي في المحصلة إلى جذب الجزائر نحوه، في ضوء علاقتها الجيدة مع موسكو وأنقرة، خصوصاً أن ثمّة شكوكاً بأن أميركا ربما استخدمت الإمارات، لكي تعرقل توقيع خليفة حفتر على إعلان وقف إطلاق النار في ليبيا، برعاية روسيا وتركيا، في 12 يناير/ كانون الثاني.
وعلى الرغم من أن السياسات الأميركية في عهد ترامب ربما تفتقد إلى "استراتيجية كبرى 
واضحة" تجاه إقليم الشرق الأوسط، فإن واشنطن لن تكون بعيدةً، على الأرجح، عن أي حل يتم فرضه في أزمة ليبيا، حتى لو بدت متثاقلةً، أو راغبةً في تحفيز أدوار حلفائها، مثل ألمانيا وتركيا، لكيلا تملأ روسيا "فراغات" التراجع الأميركي "النسبي"، بسبب إعراض واشنطن "المحسوب" عن الانخراط الكثيف في الإقليم، لأسبابٍ هيكليةٍ داخليةٍ أميركية، أي أنها لا تتعلق بالمحاكمة البرلمانية لترامب، ولا بالقلق على نتائج الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 2020.
وثانيها وجود انقساماتٍ في الموقف الأوروبي من الأزمة الليبية عموماً، وتململ فرنسا وإيطاليا وبريطانيا من صعود الدور الألماني الذي تجلّى في عقد مؤتمر برلين، وتنشيط حركتها الدبلوماسية نحو كلّ من روسيا وتركيا والجزائر، على نحو لافت. وقد يؤدي هذا التململ الفرنسي إلى استمرار دعم باريس حفتر، على الرغم من الاعتراضات الدولية "اللفظية". في حين ربما تبحث روما، عن سبل وطرق جديدة لاستعادة الملف من يد برلين، حفاظاً على مصالح الشركات الإيطالية واستثماراتها، وحصتها من الثروة النفطية الليبية. أما بريطانيا فربما تسعى إلى إزعاج ألمانيا عبر سحب الملف الليبي إلى مجلس الأمن الدولي، وإعداد مسوّدة قرار لوقف نهائي للقتال في ليبيا، بغض النظر عن مسألة تحول المسودة إلى قرار أممي من عدمه.
وثالثها الدور الجزائري/ الأفريقي في الملف الليبي، سواء عبر دبلوماسية الجزائر، وهي أكثر الدول العربية/ الأفريقية قدرةً على فرض نفسها شريكاً للجهود الدولية والإقليمية في ليبيا، أم
 عبر القمة الأفريقية المرتقبة بشأن ليبيا، في العاصمة الكونغولية، برازافيل، بحضور روسيا، يوم 9 فبراير/ شباط الجاري. مع التأكيد على أن فرص الدبلوماسية الأفريقية في هذا الملف ستتزايد، كلما استطاعت دول جوار ليبيا بناء توافقات إقليمية ودولية حول تعزيز المسار السياسي في ليبيا، خصوصاً عبر التنسيق مع الثلاثي الروسي الألماني التركي، بسبب تصاعد دوره في هذا الملف.
وتتعلق الملاحظة الثانية بتكريس (تفاقم) التدخلات السلبية لسياسات الثلاثي، السعودي المصري الإماراتي، في القضية الليبية، مع تكريس استخدام جامعة الدول العربية "مطية" لتنفيذ هذه السياسات، على الرغم من تحول الجامعة إلى "ظاهرة صوتية"، غير ذات صلةٍ بأغلب القضايا العربية وتطلعات الشعوب، خصوصاً بعد الثورات العربية عام 2011. ويبدو أن هذه الدول الثلاث لم تكتفِ بدعم خليفة حفتر ماليا وسياسيا وعسكريا، بل أصبحت السعودية تموّل مرتزقة تابعين لشركة فاغنر الروسية يقاتلون في صفوف قوات حفتر، بحسب ما ذكرته صحيفة لوموند الفرنسية، في تقرير نشرته 25 يناير/ كانون الثاني الجاري. ولعل هذا يؤكد تأثير سياسات ثلاثي الرياض القاهرة أبوظبي في تسعير الصراعات العربية الأهلية، في اليمن وسورية وليبيا خصوصاً، وفي العالم العربي إجمالاً، عبر نقل الصراعات العربية العربية من الصراع بين النظم والسياسات، كما كان الحال أيام الرئيس جمال عبد الناصر، إلى صراعٍ داخل الشعوب والمجتمعات، أو داخل مكوّناتها الطائفية، والقبَلية/ العشائرية، والمناطقية/ الجهوية، ما أدّى، في المحصلة، إلى وضع مزيدٍ من العقبات أمام حل هذه الصراعات، سواء العربية البينية، أم الصراعات والحروب الأهلية التي باتت تضرب مناطق واسعة من الجغرافيا العربية، مع استثناءاتٍ محدودة.
وتتعلق الملاحظة الثالثة والأخيرة بعدم المبالغة في تقدير الدور الذي يمكن أن تلعبه القاهرة في تسوية الأزمة الليبية، لأن وضع النظام المصري، على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية، لا يسمح له بكثير من الحركة، سواء الدبلوماسية أم العسكرية، على الرغم من ارتفاع نبرة التصريحات والتهديدات المصرية أحياناً، كما حدث في موضوع سد النهضة مع إثيوبيا. ويواجه الدور الإقليمي لمصر معضلة كبرى تتمثل في تراجع مكانة القاهرة، بفعل عوامل متعددة، أولها تأثير تبعية السياسة المصرية للمحور الأميركي - الإسرائيلي، منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في 1978. وتعليق نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي آماله على الدعم المالي السعودي والإماراتي. ومحاولة اللعب على الاختلافات بين السياستين، الأميركية والروسية، تجاه الشرق الأوسط، وسعي النظام المصري إلى توطيد علاقاته مع موسكو، والتنسيق معها أكثر في ملفات سورية وليبيا، ما يُوقع الدبلوماسية المصرية في مآزق وتناقضات كثيرة، بحيث تبدو سياسة مصر الخارجية كأنّها تُدار بـ "القطعة"، وأن ثمّة قراراً واضحاً بالوقوف ضد القضايا العربية الاستراتيجية، إذا كان ذلك يحقّق مصلحة آنية للنظام.
باختصار، قد تمرُّ أزمة ليبيا بتعقيدات أكبر بسبب تزايد مستويات "التدويل" و"الأقلمة" فيها، ما قد يؤدي إلى تمديد "المرحلة الانتقالية" التي تخيم على المشهد منذ ثورة 17 فبراير في 2011، والتي تفاقمت تداعياتها بسبب "الحل العسكري" الذي يقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر، عبر حملاته المستمرة على العاصمة طرابلس ومدن أخرى، منذ إبريل/ نيسان الماضي، والذي يعمل على إعادة إنتاج سياسات معمر القذافي ونظامه الشمولي، بصورةٍ أو بأخرى.
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل