كي لا يتحول الغزل إلى تحرّش

كي لا يتحول الغزل إلى تحرّش

29 فبراير 2020

(محمد العامري)

+ الخط -
كان في ضيافتي، ذات يوم في دمشق، صديق مثقف عربي يعيش في أوروبا منذ زمن طويل، وكان يزور دمشق للمرة الأولى، ما جعل مني دليله السياحي. صديقي ذاك يتمتع بوسامة ملحوظة، وكانت على وجهه دائما ابتسامة، فيها كثير من الدهشة والفرح باكتشاف دمشق الجميلة. أذكر أننا، ونحن جالسان في مقهى، قال لي: أتدرين، منذ زمن طويل لم أشعر هكذا. أن تنظر إلي النساء بإعجاب. في أوروبا لا أحد يهتم بأحد. هنا بدأت أستعيد شعور أنني وسيم. .. ضحكنا يومها من الفكرة، وبدأنا بتأليف السيناريوهات المحتملة لهذا الإعجاب، وإلى أين يمكن أن يؤدي. 
حين أمشي في شارع في القاهرة، أنا التي لست امرأة جميلة بمقاييس الجمال المعروفة، وبدأت التقدم في العمر، ثمّة دائما من يبدي إعجابه بي، ليس لشيء سوى لأنها إحدى العادات الذكورية في القاهرة، وفي كل بلاد الشرق العربي، أن يعاكس الرجال النساء اللواتي يسرن في الشارع وحيداتٍ، وأحيانا حتى لو كان برفقتهن ذكور، ثمّة من يعاكسهن، وتتحول المعاكسة إلى مشاجرة كبيرة بين ذكرين أو أكثر، بينما تقف الأنثى (المسببة من دون قصد للواقعة) على جنب، من دون أي تدخل، فهي ضحية استباحة الذكر العابر من أمامها، الذي يعاكسها هي وغيرها بعادية، كما لو أنه لم يفعل شيئا، وضحية الشرف الذكوري المرافق الذي يعتقد أنها قاصرة لمجرّد أنها أنثى، فيرد عنها المعاكسين، أيضا بعادية، كما لو أن هذا من أدواره في الحياة.
لا يوجد كائن بشري، رجل أو امرأة، إلا ويسعد بإعجابٍ يبديه أحد ما بشكله. هذا الإعجاب هو جرعة مجانية من جرعات الثقة بالنفس. دعونا نكن صادقين مع أنفسنا. نحن النساء أكثر من يحتاج لذلك، إذ يعزّز هذا لعبة الغواية التي نتقنها جيدا، وهو ما لا يتعارض مع الاستقلالية وقوة الشخصية. هو شيءٌ في فطرة الأنثى، وأساطير العالم كلها أبرزت هذه الفطرة في النساء، حتى الآلهات منهن، قصة الخلق وحواء وآدم والتفاحة قامت على الغواية، بينما يسقط الذكور في فخ الغواية، معلنين، في الوقت نفسه، حروبهم ضد بعضهم بعضا بسببها. ربما حرب طروادة خير دليل: هيلين أغوت باريس ضيف زوجها منيلاوسثم تركت زوجها لأجله. وبسبب هذه الغواية، قامت حرب امتدت مائة عام تقريبا. لم تعد الحروب الطويلة تحصل بسبب النساء طبعا، وإنما بسبب السلطة والقوة والسيطرة، ولكل من هذه الأسباب غوايتها الخاصة التي يسقط الذكور في فخها، فالحرب فعل ذكوري بحت، نادرا ما تشارك فيه الأنثى.
على أن هذه اللعبة كثيرا ما تخرج عن قواعدها، لتصبح اعتداء حقيقيا على الأنثى، خصوصا في المجتمعات التي تمارس التمييز لصالح الذكر. والحال أن غالبية مجتمعات العالم تفعل هذا، ربما حتى وقت قريب، حيث يستبيح الذكر الأنثى، سواء أكانت من محيطه أو من خارجه، لمجرّد أنه يملك القوة التي يقدمها له المجتمع من دون حساب. قوة التفوق الاجتماعي والسلطة والمال والعمل، التراتبية الطبقية والدينية والاقتصادية والسياسية، تبيح للذكر أن يعتدي على الأنثى، هو مطمئن أن لا أحد سيحاسبه، وأن مبرّرات كثيرة سوف توجد له، وأن ضحاياه (هو لا يعتبرهن ضحايا أصلا) سوف يصمتن لأسباب عديدة: خوفا من الفضيحة المجتمعية، أو خوفا من فقدان وضع اقتصادي أو اجتماعي ما، أو ببساطة لأنهن موقناتٌ أن لا أحد سيُنصفهن، وأن شيئا كهذا يحدث دائما من دون محاسبة المعتدي.
في فيلم "المحصن" الذي أنتجته "بي بي سي"، وأخرجته أورسولا ماكفارلين العام الماضي، عن قضية منتج هوليوود الشهير، هارفي واينستين، والذي يُحاكم بتهم التحرّش والاعتداء الجنسي والاغتصاب، تتحدث الممثلات والنساء اللواتي اعتدى عليهن عن أسباب صمتهن طوال هذه المدة، بإجابتين: خوفا من فقدان فرصة العمل في هوليوود، وخشية أن لا يصدّقهن أحد، فهن مجرد مبتدئات صغيرات مجهولات، وهو حوت هوليوود.
تخيلوا أن هذا يحدث في أميركا، فما بالكم في بلادنا ومجتمعاتنا التي تعظّم الذكر، ليس فقط اجتماعيا، بل قانونيا وقضائيا، وهو ما يجعل من النساء والفتيات رافضات حتى للمعاكسة البسيطة والعادية، إذ ليس ثمّة حدود يمكن للذكر في بلادنا أن يقف عندها، وليس ثمّة قوانين تحاسبه وتصنف الضحية، وهو ما يدفع النساء إلى محاولات التخلي عن الجزء الأكثر لطفا في فطرتهن (الغواية). وبهذا، تتسرّب الحميمية والدفء من المجتمع لصالح البرودة والحياد، بل والعنف في أحيانٍ كثيرة.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.