الوطنيات العربية الحديثة

الوطنيات العربية الحديثة

29 فبراير 2020
+ الخط -
من المفارقات التي شهدها العالم العربي أن الحدود الأكثر قسوة بين الدول العربية هي التي قامت بين الدول التي ادّعت القومية، ورفعت شعارات الوحدة العربية. والمثال الأكثر وضوحاً على الإغلاق التام للحدود، واعتبارها الخطر الأكبر على البلد، حالة الحدود السورية ـ العراقية في فترة حكم كل من صدّام حسين العراق وحافظ الأسد سورية، فقد حكم شقا حزب البعث البلدين، لكن العداء بينهما فاق عداءهما أي دولة أخرى. وكان من أكبر الجرائم التي يمكن أن يرتكبها شخصٌ في سورية أن ينتمي إلى "بعث" العراق، وكذلك الحال في العراق. 
يساق هنا هذا المثل المتطرّف في صناعة الحدود العربية لأنه مؤشّر على عمل السلطات العربية في الواقع السياسي القائم على عكس ما تدعيه شعاراتها. والمفارقة الأكبر تكون إذا ما قارنا سياسات الحدود هذه مع سياسات الحدود للسلطات الاستعمارية التي قسّمت هذه البلاد وحكمتها قبل الحكم الوطني. على الرغم من خضوع هذه البلدان للاستعمارين، البريطاني والفرنسي، كان يمكن للعربي التنقل بين القدس ودمشق وبيروت وبغداد من دون عقبات حدودية فعلية، وكان التنقل أقرب إلى التنقل الداخلي.
أخذت الوطنيات العربية الحديثة، بمعنى مصر أولاً، وسورية أولاً، والعراق أولاً... تظهر في 
الخمسينيات، تحديداً مع دولة الشعارات القومية في مصر الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان متردّداً في قبول عرض الوحدة السوري، وعندما قبله، تعامل مع سورية كما الاحتلال، بتفويض حكم سورية للمخابرات، حتى يمكن اعتبار أن الدولة الأمنية في سورية هي نتاج فترة الوحدة مع مصر، لأن الانقلابات السورية التي تلت الاستقلال، لكل من حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي، لم تستطع إقامة الدولة الأمنية في سورية التي وجدت مع الوحدة مع مصر، وعمقها الحكم البعثي انطلاقاً من العام 1963.
ويمكن اعتبار الوطنيات الحديثة قد تعزّزت في الدول العربية التي لم ترفع سلطاتها الشعارات القومية، بالصراعات بين هذه الدول والدول التي ترفع الشعارات القومية، أو بين هذه الأخيرة مع بعضها، فالعالم العربي شهد صراعاتٍ كثيرة، الصراع السوري ـ العراقي، والجزائري ـ المغربي، والليبي ـ المصري، والمصري ـ السعودي... إلخ. من هذه الصراعات التي استدعت ليس تشديد الرقابة على الحدود فحسب، بل وجعل العلاقة مع الطرف الآخر المتصارع معه، أو الذي يحتمل أن ينشب صراع معه من الاعتماد المتبادل، في حدّها الأدنى، حتى لا يستطيع هذا الطرف التأثير على الوضع الداخلي للبلد. وذلك كله في ظل جامعة عربية، كل الدول العربية أعضاء فيها، تدعو إلى التكامل العربي، وإلى العمل على صياغة معاهدة دفاع مشترك، وكلام نظري كثير عن التعاون الذي يجد في الواقع تطبيقاتٍ تتناقض معه على طول الخط.
كان الصراع مع إسرائيل الموقع الذي ظهرت فيه الوطنيات الحديثة بشكلها المتناقض مع الآخرين. قبل هزيمة العام 1967 تحدثت الدول العربية عن القضية الفلسطينية بوصفها قضية العرب الذين يجب أن يُنجدوا إخوتهم من العدوان الصهيوني. وبعد الهزيمة أصبحت هناك أراض محتلة لثلاث دول عربية غير فلسطين، وهي مصر وسورية والأردن. وبذلك لم تعد الشعارات التي تتعلق بفلسطين كافية، لأن هناك أراضي وطنية احتلتها إسرائيل في الحرب، وبالتالي اعتبرت السلطات الحاكمة أن استعادة الأراضي الوطنية أولوية. وبعد حرب العام 1973 التي لم تستطع أن تغير شيئاً في واقع الحال الميداني من احتلال إسرائيلي للأراضي العربية، تبين أن هذه الحرب سقف ما يمكن للدول العربية فعله في مواجهة إسرائيل. ظهرت الوطنيات الحديثة بشكلها الفجّ في مصر أنور السادات، مصر أولاً، بالحديث عن أولوية استعادة الأراضي المصرية باستقلالٍ عن الأطراف العربية الأخرى في الصراع، وأن كل الشعارات المصرية السلطوية باتت تتركّز على استعادة سيناء، بوصفها الأراضي المصرية المحتلة، وفي حال استعادة مصر أراضيها المحتلة، تزول أسباب الصراع مع إسرائيل، أما الآخرون فليستعيدوا أرضهم بأنفسهم كما فعلت مصر. وأسّس هذا المنطق للحل المصري المنفرد في اتفاقات كامب ديفيد، وأسّس لوطنيةٍ مصرية رمت كل الشعارات القومية التي عاشت عليها في الخمسينيات والستينيات في سلة القمامة. والمقاطعة التي فرضها العالم العربي على مصر، لتوقيعها اتفاق سلام منفرد مع إسرائيل، سرعان ما تفكّكت، وعادت الدول العربية إلى إقامة علاقات مع مصر، وعادت مصر المثقلة باتفاقات كامب ديفيد عضوا طبيعيا في جامعة الدول العربية، النظام الرسمي العربي.
بعد ذلك، لم يعد شعار مصر أولاً حكراً على مصر، بل اتخذت هذه الصيغة أولويات صاغتها كل 
سلطةٍ بما يتوافق مع مكانتها السياسية والجغرافية. أصبحت السعودية أولاً، وسورية أولاً، والعراق أولاً... إلخ. في وقتٍ اتخذت الوطنيات الحديثة منطق الثروة لأصحابها في دول الخليج تعبيرا عن الوطنية الحديثة هناك. أخذت في دول الشعارات القومية شكل تكريس الدولة الوطنية تحت الشعارات القومية ذاتها، على الرغم من أن السياسات التي اتبعتها هذه الدول تتناقض مع هذه الشعارات. فتحت هذه الشعارات تدخلت سورية في لبنان (بموافقة أميركية/ إسرائيلية طبعا) وحكمته، ونهبته، واعتقلت رجاله، وأرهبت البلد ثلاثة عقود، ولم تفعل شيئاً في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية عليه. كذلك رفعت سورية شعارات القضية الفلسطينية، وكان الهم التاريخي لحكم "البعث" الإمساك بالورقة الفلسطينية، وإخضاع القوى السياسية الفلسطينية لإرادته. وليس حال العراق البعثي مع صدام حسين أفضل، ففي ظل الشعارات القومية الداعمة لفلسطين، كانت الحرب مع إيران ثماني سنوات. وعندما انتهت الحرب مع إيران، وتحت الشعارات نفسها، احتل صدّام حسين الكويت، وجلب الكارثة إلى العراق والى المنطقة.
لم تولد الوطنيات الحديثة في الدول العربية في سياق الانفتاح على الآخر وتعزيز التعاون معه، بل على العكس، ولدت في ظل انغلاق على الآخر الشقيق، وانفتاح على الآخر العدو، هذا في السياسات الخارجية. وفي السياسات الداخلية، ولدت الوطنيات الحديثة في ظل تشديد سياسات القمع وسلب المواطن حقوقه، من خلال حكم العصابات التي عملت على نهب بلدانها وإفقارها. لنكتشف مع ثورات الربيع العربي أن الخراب الذي سببته هذه السلطات لبلدانها أكبر من كل تصوّر.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.