في تورّط الأمة بمبارك

في تورّط الأمة بمبارك

28 فبراير 2020
+ الخط -
كان استدعاء الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، قائد القوات الجوية، الفريق طيار حسني مبارك، في صباح أحد أيام إبريل/ نيسان عام 1975 يعبر عن عادة توارثتها الأجيال من عهود حكم الغاب والديناصورات؛ ففي حين تخيّل مبارك أن السادات سوف يكافئه على دوره في حرب 6 أكتوبر بتعيينه سفيرًا في لندن، أو "بلد الإسكلانسات"، على حد قوله في حواره التلفزيوني مع عماد الدين أديب في 2005، وهو بذلك يُثمن دوره في الحرب تثمينًا حقيقيًا متواضعًا، لا كما فعل بمساعدة الإعلام والدولة بعد توليه الرئاسة. 
استدعاء السادات له وإخباره أنه سيوليه منصب نائب رئيس الجمهورية تعبير ببساطة عن حب كل مسؤول مُستبد أن يخلفه آخر لا يفقه في عمله وتصاريفه ومجرياته شيئًا؛ كي يستمر ويكسب مجرد ظل إضافي له؛ أو ما ترجمه الراحل نائب رئيس وزراء مصر الأسبق، يحيي الجمل، بعد تنحي مبارك، بقوله إن السادات أتى بمبارك بعدها؛ وقال لمستشاره السياسي أسامة الباز باللهجة الصعيدية إمعانًا في تسفيه نائبه: "عندك مبارك أهوه ما يعرفش حاجة واصل في السياسة، .. عاوزك تنجره (تعيد صيانته) وتعلمه وتفهمه"، بالإضافة إلى أمره أن تُصرف له عدة آلاف من الجنيهات، ليشتري بدلات جديدة، بدلًا من منتهية الصلاحية التي كان يرتديها دائمًا.
جاء السادات نفسه إلى الحكم مستخدمًا اللوازم نفسها، وصانعًا من ملايين التفاصيل والقصص الصغيرة عقدًا من ادعاء يقين وإخلاص، طوّق به الرئيس السابق له جمال عبد الناصر، فمن تفويضه المكتوب له في اجتماعات الضباط الأحرار؛ إلى موافقته في كل أمر دقّ أو جلّ؛ وهو الدور الذي أداه حتى عبد الفتاح السيسي ببراعة فائقة أمام الرئيس الراحل محمد مرسي.
لمّا خطط السادات لتصميم قبره بجوار الجندي المجهول، بحضور وزير الحربية والمشير عبد الغني الجمسي ومبارك، جاءت الصورة بلمعان عين للأخير لا تخطئه عينٌ ملمّة بتطلعاته وإدراكه بوشيك الوصول إليها؛ مع صعوبته الشديدة عليه، نظرًا إلى قدراته الضحلة، ولكنه حب السلطة وشهوتها، ولذلك قالت جيهان السادات في كتابها "سيدة من مصر" (النسخة الإنكليزية) إنها أتت بابنها الطبيب جمال، على الرغم من دموعه وتوسّله إليها بالَّا تفعل ليدخل على أبيه في المشرحة، ويتأكد من أنه لم يُغتل من الخلف، أي برصاصةٍ من مبارك؛ وهو ما لم يُثبت عليه دليل حقيقي، ولكن الأمر لا يمنع أن المخلوع طالما تمنّاه.
كان مبارك باختصار رئيس المصادفة، أو الرجل الذي كان يقبل أي دور في الحياة في سبيل 
المال، حتى لو مثل كومبارس في ثلاثة أفلام كاد يُعدمها لمّا تولى الرئاسة، ولذلك حرص على تجفيف مصر من الكوادر البشرية والإمكانات الفائقة منها نحو ثلاثين عامًا؛ وكان كلما رأى نجمًا بازغًا في مجال، ولو لم يكن ينتمي للحكم بصلة، أمر بقهره وإخراجه وإعدامه معنويًا، إن لم يكن ماديًا؛ مع تقريب الأدنى والأقل خبرةً.
مات حسني مبارك، بعدما حرص، خلال سنوات حكمه، على عدم إسعاد أحد في المقام الأول إلا نفسه، وعلى حساب شعبه ومكانة وكرامة مصر، بل الأمة أيضًا؛ ولذلك أطلق أذرع مؤسسات الدولة في نهش المواطن الشريف، وتقطيع أوصاله، وقتل النخوة بالملايين وإماتة الضمائر لدى الأجيال المُتتالية، مع تردّي الصحة والتعليم والأمن، حتى قال رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، إسحاق رابين، لما استنكر مبارك عنف الصهاينة مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية: لو قامت الانتفاضة في مصر لقمعتَها بأقل من أسبوعين.
ذهب مبارك إلى ربه، فإن كنا لا نملك حسابه أو الحكم عليه؛ فإننا نملك أن نأسى لأنفسنا وأمتنا، إذ مكَّن الرجل منا ومنها أعداءنا، وعاش نصيرًا وظهيرًا خائنًا كل مقدس، ومُدركا أنه لا يستحق مكانته، وكان الصديق الأقرب لنتنياهو؛ ولمّا اضطرته دماء شعبه للتخلي عن الرئاسة عاقب تسعين مليونًا بتولية المجلس العسكري عليهم، ولم يكن القرار من صلاحياته وهو متنحٍّ مخلوع؛ لكنه انتهز عدم وجود رأس أو قيادة للثورة، وأثمر ذلك ازديادًا لتدمير دول عربية وضياعًا للمقدسات.
أجاد الراحل اللؤم والمكر في حياته مع كنز الأموال وتقديم التنازلات من أجل مصلحته الخاصة، بما لم يدع فرصة للعقلاء في التدبر الشماتة (وإن كانت منبوذة)، بل ترك لهم دورًا أكثر قسوةً وأهمية أمام أنفسهم وأمتهم، ومن قبل التاريخ: إذ كيف يمكنهم التخلص من رجال مبارك الذين زرعهم مكانه في حكم مصر؛ وأعان على تحكّمهم في الأمة، وهم أكثر قسوة وانعدامًا للإمكانات.