هل ألغت الثورة اللبنانية اليسار واليمين؟

هل ألغت الثورة اللبنانية اليسار واليمين؟

27 فبراير 2020
+ الخط -
تنظيمان شيوعيان متفاوتا الحضور. الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان. يلتقيان، وعلى فترات قريبة، الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني 2020)، مع الحزب اليميني المسيحي التاريخي الذي كان قبل الحرب الأهلية، وفي أثنائها وبُعيدها، الخصم النظير لكليهما: حزب الكتائب اللبنانية. 
وهكذا، وقبل الشروع في بعض التفاصيل، سجّل التنظيمان الشيوعيان مفارقتين لن توقفهما عن مسعاهما، على الأرجح؛ ولكنهما تشيران بالتأكيد إلى بواطن سوف يكشفها مسار تلك اللقاءات والبيانات الصادرة عنها. من أنهما، أولاً، ومن حيث الولادة، كانا على نقيض حزب الكتائب اليميني. الأول، الشيوعي اللبناني، رأى النور بعيد ثورة أكتوبر البلشفية (1924)، واستمد عزوته من الاتحاد السوفييتي الناشئ الذي انتصر، بعد ذلك، على النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية. وكانت منظمة العمل الشيوعي، الأخت غير الشقيقة للحزب، قد ولدت بعده بعقود، مستمدّة من الإتحاد السوفييتي سَنَداً، لا يتناقض ونقدها للسفْيَتة (سوفيات) وأحزابها. فيما الكتائب تفتّحت عام 1936، عشية الحرب العالمية الثانية، بتماهٍ مع "الكتائب" الإسبانية الفرانكية المنتصرة على خصومها اليساريين الإسبان، ومن بعدها، حليفة هذه الكتائب الفرانكية، أي النازية الألمانية. تلك الولادة من بطون متعادية جعلت الشيوعيين والكتائب يتعارضون في كل شيء: من الأسس إلى الأيديولوجيا إلى الولاءات والممارسات... إلخ.
إذن، حزبان شيوعيان من أصول متقاربة، يلتقيان، ويتحادثان مع حزبٍ نشأ على القواعد النقيضة. تلك هي أولى المفارقات. ثم المفارقة الثانية: المعروف أن التعاون بين منظمة العمل الشيوعي 
والحزب الشيوعي، بعد ازدهار، بدأ يتعثّر، في أكثر اللحظات خطورة؛ عندما كانا يخوضان في ثمانينيات القرن الماضي، مقاومة ضد إسرائيل تحت راية "جمول" (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية). وبعد التعثّر، كان التجميد ثم التوقّف عن التعاون. إذن: مجموعتان، الحزب والمنظمة، ذات الأصول الواحدة، لم تتمكّنا من التفاهم، أو التحالف أو التنسيق. ولكن كل واحد بمفرده استطاع أن يفتح نافذةً على حزبٍ بني على عكس هذه الأصول تماما. فخلف هذا التباعد، كان ثمّة خلاف سياسي بين المجموعتين الشيوعيتين، وهذا واضح في البيان المشترك الصادر عنهما إثر لقاء مسؤوليهما بمسؤولي الكتائب؛ مع المنظمة. لحظ البيان، بعبارات مموّهة، الوقوف ضد توجهات الممانعة؛ إذ دان "إصرار بعض القوى" في السلطة "على إبقاء لبنان ساحة مرتهنة للحروب الأهلية القائمة على الانقسامات الطائفية والعرقية في دول الجوار".
أما مع الحزب، فلم يأتِ البيان على أية إشارة، ولو مفتعلة، إلى موضوع "الساحة" هذا. ومع ذلك، تسبّب هذا البيان المشترك، بين الكتائب والشيوعي، بخضّةٍ داخل الأخير، وعلى أطرافه، قسمت أعضاءه بين مؤيد للقاء مع الحزب اليميني ومعارض له بشدّة: على أساس أن هذا الحزب اليميني معادٍ لمحور الممانعة. بل هو حزب "عميل لإسرائيل"، ودوره في الحرب الأهلية .. وما شابه من عباراتٍ تشي بتمسّكٍ بالثوابت العقيدية.
يقول الحزب الشيوعي إن تعاونه مع الكتائب ليس جديدا. قبل الثورة، كانا ينسِّقان التحرّكات
النقابية، ولكن "على القطعة"؛ أي حول مطالب محدّدة، وليس حول برنامجٍ شامل. ولكن ثورة اللبنانيين أمدّت المحموعتين الشيوعيتين وحزب الكتائب بما يتطلبه اللقاء بين الاثنين، وربما بالمزيد أيضاً. ذلك أن الثورة ضربت الحواجز بين قواعد المجموعات الثلاث، بأن جمعت من لم يكن يجتمع قبلها. وأن رئيس حزب الكتائب حوَّل مركزه الحزبي في حيّ الصيفي، القريب من ساحة الشهداء إلى مستوصف، يستقبل فيه، مع زوجته المسلمة، ضحايا العنف البوليسي في أثناء المواجهات التي حصلت قبل أسابيع بين المتظاهرين وقوات مكافحة الشغب. والمؤكد أن الصورة الإجمالية لحزب الكتائب، ذي الجمهور المسيحي، قد تغيرت، بنظر أبناء الضفة "اليسارية"، ذات الغالبية المسلمة. وإذا كان من مقدّمة لتفسير هذه الجاذبية المتبادلة بين أعداء لدودين، ربما نجدها في أن الثورة لم تكن أيديولوجية على الإطلاق. حرّرت المجموعات الثلاث من ترسانتها الأيديولوجية؛ فهي لا تحتاج إليها لتقول إن ما تريده، ما تظاهرت من أجله منذ أربعة أشهر، هو مجرّد دولة "طبيعية"، يحكمها قانون ومؤسسات ونظافة كفّ. إنه المطلب الأقصى والأدنى في آن. وهو جعل خصمين سياسيين، ذوي إيديولوجيا واحدة، يلتقيان مع خصم أيديولوجي آخر، معاكس له تماماً. هكذا تبدّت المفارقة الآنفة؛ أو على الأقل يكون حلّ شيء من لغْزها بالقليل من الوقائع.
الأطراف الثلاثة يقولون، جهراً أو همْساً، إنهم بهذه اللقاءات إنما استفادوا، وجَنوا. ويمكن تخيّل تلك الثمرات: أن الكتائب "انفتح" على المحيط المسلم، وخرج من الغيتو الذي أسرته به بصمة "العزلة"؛ وقد أطلقها اليساريون عليه عشية الحرب الأهلية، وبقوا يصمونه بها. فيما الشيوعيون، على الرغم من أنهم ما زالوا يكابرون، ويقولون إنهم "عابرون" للطوائف، فقد نالوا مجالا، يطمحون إلى "غزوته"؛ فالشيوعيان الاثنان ما زالا يعتقدان أنهما "طليعة". وكذلك حزب الكتائب.
ولكن، إذا كان من الضروري إبعاد هذه اللقاءات عن شبْهة مجرّد الإستفادة بالشعبية، مجرّد حسابات، أو أرقام، ستكون مفيدةً في إنتخابات نيابية قادمة.. فعلى الثلاثة أن يوسعوا لقاءاتهم، بحيث لا تقتصر على "مسؤوليهم"، أو قيادتهم. بأن يطلقوا العنان لتَلاقي قواعدهم هذه، صاحبة الجميل الفعلي بهذه اللقاءات والبيانات، فيجتمع ساعتها المعنيون الفعليون بما سوف يترتّب على هذه اللقاءات "القاعدية" من مراجعة حقيقية: لتاريخ الحرب، ولما ارتكبته كل الأطراف، كلها.. بحق الوطن، وما تلا هذا الخراب من ذاكرة مثقوبة، تحتاج إلى من يملأ فراغاتها، وبالملموس.