نزيف إدلب بين مصالح روسيا وتركيا

نزيف إدلب بين مصالح روسيا وتركيا

27 فبراير 2020
+ الخط -
لنقرّر تناقض المصالح بين روسيا وتركيا في معركة إدلب المستعرة في الوقت الحالي، والمتصاعدة منذ نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، علينا أولاً أن نقرّر بوضوح هذه المصالحَ. .. المصلحة الروسية في الحرب على إدلب لا تختلف عن مصلحتها في الحرب على المناطق السورية التي وقعت تحت سيطرة الثوار في العامين 2011 و2012، ثمّ استعادها التحالف الروسي الأسدي الإيراني، خصوصا منذ التدخل الروسي في سبتمبر/ أيلول عام 2015، وهذه المصلحة المباشرة تحديدًا هي تطهير المناطق السورية التي سبق للفصائل الثورية السيطرة عليها، وتهجير كل سكانها؛ فالحرب التي تخوضها روسيا، داعمةً نظام الأسد والمليشيات الإيرانية، هي حرب تطهير وإبادة. وهذا ليس سرًا، فإن منافذ النّشر الروسيّة، بما فيها المستقلة، تتكلّم عن ذلك بلا حرج. إذ تكتب صحيفة موسكو تايمز المستقلة، في تقرير نُشر في 21 فبراير/ شباط الحالي أن القوات السورية المدعومة من القوات الروسية تقاتل منذ ديسمبر لاستئصال آخر معاقل الثوار في المنطقة. وفي وقت سابق، صوّرت قناة "روسيا اليوم" فيديو باستخدام طائرة مسيّرة بدون طيار لتصوير مدينة سراقب خالية تمامًا ومدمّرة، بعد أن أجبرت سكانها على الهروب باستخدام سلاح الطيران. .. هذه هي المصلحة الروسية المباشرة، وهي "تطهير" إدلب من سكانها، ويشمل هذا التطهير المدنيين والثوار. ولكن لتسوّغ روسيا حرب الإفناء هذه، والتي ربما لا تحتاج لتسويغ، تتخذ ذريعة قتل العناصر الجهادية، وهو أمرٌ كذبه واضح. 
حقيقة الحرب الروسية - السورية على مناطق الثوار في حرب السنوات التسع لا يُتكلّم عنها في منافذ النشر العربية والغربية باعتبارها حرب "استئصال" أو "إبادة"، ولكن يُكتب عنها باعتبارها "حربا أهلية" أو ما شابه. وفي هذا تزييف للحقائق، وترتيب نتائج لا مقدّمات لها. الإرادتان
والمصلحتان، الروسية والأسدية، تقتضيان حرب الإفناء التامّة. وبالتالي، لا نتيجة تُرجى من محاولة تركيا "استثناء إدلب"، وهي المحاولة الواهمة في أقلّ تقدير. فلنتخيّل أن إدلب، بمساحتها الشاسعة، باقية للثوار ولأهلها وللنازحين من المناطق السورية الثورية سابقًا، فهذا يعني أن خزانًا بشريًا هائلاً له فصائله المسلحة التي تدافع عنه سيظل بجانب سورية الأسد، وهو ما سيظل، على فرض بقائه وهو ما لم يحدث، تهديدًا دائمًا لسورية الأسد، وسيشكل خطرًا على المصلحة الروسية التي أنفقت على تحقيقها خمس سنوات من الإنفاق العسكري الهائل. وخلف هذه المصلحة الروسية الأسدية، تكمن المصلحة الإيرانية التي تعني إنجازًا لا يُضاهى في مشروع تصدير ثورتها وتمدد نفوذها وتوسّعه في منطقة المشرق العربي، ليلتحم مشروعها التوسعي في العراق شرقًا وفي غزة غربًا. أمّا عن الأراضي الشاسعة التي فُرّغت من أهلها فهو بيت القصيد بالنسبة للأسد ولإيران اللذيْن سيتعاونان لتوطين سكّان غير سوريين بعد إعادة الإعمار، وبالتالي تكوين "سورية جديدة موحدة"، كما يريد الأسد، ولاؤها لداعمتيها روسيا وإيران.
في الجانب المقابل، لتركيا مصلحتان رئيسيتان تعلن عنهما دومًا، وهو منع القوميين الأكراد من تكوين كيان شبيه بالدولة على حدودها، وهو ما يهدّد أمنها القومي على المديين، المتوسط والبعيد، وهو ما أنجزته بالفعل في عمليتي درع الفرات 2016 وغصن الزيتون 2018. أمّا مصلحتها الثانية فهي وقف تدفق اللاجئين إلى أراضيها، وإبقاؤهم في إدلب، وهو ما لم يحدث، وقد كان هذا هدف عمليتها نبع السلام 2019 والتي لم تأتِ بسلام أبدًا، ولم تحقق المصلحة التركية. بالإضافة إلى هاتين المصلحتين التركيتين المعلن عنهما دومًا، لا نعلم على وجه اليقين إن كانت لها مصالح أخرى دفعتها إلى اتخاذ قرار التوغل جنوبًا في إدلب عبر عملية نبع السلام، ولا سبب تفضيلها هذا التوغّل عوضًا مثلاً عن تكريس مواردها لإزاحة الأكراد القوميين في الجزء الشرقي من حدودها، والواقع شرق جرابلس. هل هناك تفاوضات وتفاهمات بتحقيق بعض رغبات فصال ثورية في معركة إدلب مثلاً؟ ولكن الإبقاء على الفصائل الثورية يشكّل مصلحة تركية كذلك، فقد كانت هذه الفصائل وقود الحرب في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، وربما ستحتاج تركيا هذه الفصائل في عملية مقبلة لمزيد إزاحة للقوميين الأكراد باتجاه الشرق، فالفصائل الثورية بالنسبة لتركيا تضاهي الفصائل القومية الكردية بالنسبة للولايات المتحدة، وتضاهي نظام الأسد بالنسبة لروسيا.
وعقد قمم ومحادثات، لمحاولة تحقيق وقف إطلاق نار في إدلب، مثل الاجتماع الرباعي المحتمل 
بين فرنسا وألمانيا وتركيا وروسيا، هو بمثابة تضييع بعض الوقت ريثما تنجز المليشيات الأسدية، مدعومة بالطيران الروسي، قضم مزيد من البلدات والمدن في أطراف إدلب. وبينما تستمر هذه المحادثات، ستنجز روسيا تصوير بعض المدن والبلدات الفارغة من سكانها، والذين دفعتهم إلى الهروب نحو الشمال السوري، وهو المكان الوحيد الذي توافق روسيا على إبقائه ملاذًا آمنًا للسوريين النازحين الذين لم تستطع قتلهم بآلتها الحربية في حربها الاستئصالية، كما تكتب صحيفة موسكو تايمز المستقلة بوضوح. وإلى أن يحدث ذلك، ربما يتعيّن على تركيا أن تعيد النظر في أهدافها من عملية نبع السلام، وتقرر الطريق الأقل وعورةً لتقليل أعداد النازحين المتدفقة، ولوقف نزيف جرح إدلب الكبير.
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
خديجة جعفر

كاتبة وباحثة مصرية، ماجستير في الفلسفة من الجامعة الأميركية في القاهرة.

خديجة جعفر