العراق .. الرقص على رؤوس الثعابين

العراق .. الرقص على رؤوس الثعابين

26 فبراير 2020
+ الخط -
يُؤثَر عن الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، وصفه لتجربته في حكم اليمن التي دامت أكثر من ثلاثة عقود بأنها "رقصٌ على رؤوس الثعابين". قد ينطبق هذا الوصف على أوضاع العراق اليوم، إذ اقترنت السنوات الست عشرة العجاف التي أعقبت غزوه بتسلّط طبقة هجينة. سياسيون من الدرجة العاشرة لا يملكون من مؤهلات القيادة، ولا من المعرفة بفنون الحكم والسياسة شيئا يذكر، باستثناء حبهم التسلط وممارستهم القمع المبرمج، وشرههم للمال، وتوغلهم في صفقات الفساد، وتنكّرهم لحقوق الوطن والمواطن إلى درجة تخلقهم بأخلاق الثعابين!
والثعابين، كما هو معلوم، لا ترى الأشياء بوضوح. أحيانا يصل الأمر عندها إلى درجة انعدام الرؤية. سياسيو العراق كذلك، ستة عشر عاما وهم لا يرون أبعد من أرنبات أنوفهم. يتعاملون مع المتغيرات بالطريقة التي تضمن مصالحهم ومصالح أحزابهم ومصالح الجهات التي جاءت بهم. يستوي في ذلك من هم محسوبون على طهران أو من هم محسوبون على واشنطن، ومن هم بين الاثنين. ولذلك تراهم يداهنون ويتملقون ويزيفون الوقائع والأحداث على النحو الذي يحمي مصائرهم الشخصية ومواقع نفوذهم، ويبقي سيطرتهم على المال والقرار، ويغطّون ذلك كله بكلام معسول، ووعود براقة يكرّرونها في كل مناسبة، كما الثعابين التي تغطي أجسادها بجلود تعينها على الحركة والتنقل، وتجدّدها كلما دعاها الحال. وكما جبلت الثعابين على الخداع والمكر، فقد تدرب سياسيونا على ذلك إلى درجة أنهم أصبحوا يتبادلون الضحك، بعضهم على ذقون بعضهم الآخر، من دون شعور حتى بحياء مصطنع!
وحال بلادٍ يصول فيها مثل هؤلاء ويجولون لا تعطيك أملا بأن ثمّة تغييرا يمكن أن يحدث إلا بزوال هذه الطبقة كلها، وهذا ما يقول به المنتفضون/ الثوار الذين عبّروا عن رفضهم المطلق المحاولات المحمومة الجارية لإعادة إنتاج "العملية السياسية" بتغيير وجوه وإعادة تلميع أخرى 
تبقي الحال على ما هو ماثل، وتكرس المآلات والنتائج نفسها.
على وفق هذا السياق، تجيء حكومة توفيق علاوي التي تعسّرت ولادتها بفعل بعض من خصومه، لتطيل في عمر "العملية السياسية" عاما آخر. وعلى الرغم من أنه عرف برفض الثوار له، إلا أنه لم يستمع لنصيحة أصدقائه بالتراجع، والخروج بجلده سالما، وإنما قفل على نفسه، وقرّر أن يجرّب حظه الذي نتمنّى له أن لا يكون عاثرا. أعطى وعودا في العلن، وأعطى وعودا تناقضها في السر، وهو يطمح، في قرارة نفسه، أن ينجح في العيش في ظل المساكنة بين رجال أميركا ورجال إيران. لم يدرك بعد أن الطلاق بين الفريقين أصبح قاب قوسين، وقد يعصف طلاقٌ من هذا النوع بكابينته الوزارية، حتى قبل أن تنجز ما أوكل إليها من مهام.
وبانتظار خطواته العملية، لا يوفر المناخ السياسي في بغداد، كما تفصح شواهده، قدرا من التفاؤل بتغيير دراماتيكي، خصوصا في ظل إصرار شباب الانتفاضة على مطلبهم في التغيير الشامل. ومع ذلك كله، ثمّة من يحاول أن يقنعك بأننا لن نرتد إلى الدوّامة نفسها، وأن محمد توفيق علاوي سيقاضي قتلة المتظاهرين، ويحيل حيتان الفساد إلى المحاكم، وسيجري انتخاباتٍ حرّة على أعلى درجات النزاهة، دونها تجارب بلدان حباها الله بنعمة الديمقراطية. وقد غرق هؤلاء في تفاؤلهم إلى درجة الحلم بأننا نقف على أبواب واقعٍ جديد، وأن تاريخا جديدا يولد، ليقطع مع الأعوام الستة عشر اليابسة. ولكنهم ينسون أن علاوي لن يكون قادرا على الرقص على رؤوس الثعابين، لسبب بسيط، أنه لم يهبط علينا من المريخ، إنما هو أحد الأبناء البرَرة لهذه الطبقة التي تحكم العراقيين، والتي تحمل مكرها وخداعها وقدرتها على التكيف والتماهي، ولو ظاهريا، مع ما يريده الناس، وهو، إذا ما افترضنا النية الحسنة عنده للتغيير، فإنه لا يمتلك المهارة، ولا الجرأة التي تتيح له القضاء على الثعابين، أو الحدّ من قدرتها على اللدغ على الأقل، وإنْ كنا نطمح أن يتمكّن، ولو بقدر معلوم، من أن يحقق شيئا ما، وسوف نحفظ له حينذاك فضيلة المجتهد الذي له أجر إن أخطأ، وأجران إن أصاب!
وسط هذا "التشاؤل" الذي يعاني منه العراقيون، تظل هناك حقيقة ماثلة أمام العين: إن "العملية السياسية" التي هندسها الأميركيون، واستثمرها الإيرانيون، تعاني اليوم من الغثيان، وتعيش سكرات الموت، وهذا ما يعترف به رجالها أنفسُهم، لكن هذه الحال التي نريد لها أن تنتهي قد تدوم وقتا أطول، وهذه هي المأساة.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"