لبنان رواية تراجيدية

لبنان رواية تراجيدية

25 فبراير 2020

(حسن جوني)

+ الخط -
ثمّة ما هو توراتي في الرواية التي نعيشها نحن اللبنانيون اليوم؛ توراتي، أو مأساوي، أو ملحمي، أو فجائعي، لا فرق، فهو يتفوّق على كل توصيف، ويمتنع عن الانخراط في أية مقارنة. وفوق هذا كلّه، لا يني يُمعن في التحوّل والتقلّب والتراجع ضد أي ثباتٍ في سوء الأحوال.
في كتابه "موت التراجيديا"، يقول جورج ستاينر (23 إبريل/ نيسان 1929 – 3 فبراير/ شباط 2020)، الكاتب الإنكليزي – الفرنسي – الأميركي، المتخصّص في الأدب المقارن ونظرية الترجمة، والمعروف لدى الجمهور العريض فيلسوفا ومفكّرا وناقدا، يقول إنه ينبغي لبطل التراجيديا أن يتحمّل جزءا من مسؤولية مأساته، باعتباره مذنبا ولو بشكل غير واع، أو غير مباشر، أو غير إراديّ، فيُدرج حالةَ أوديب الذي يجهل، في العمق، أنه قد قتل أباه وتزوّج أمه، مثالا، ويستشهد برأي أرسطو كما ورد في "فنّ الشعر" حيث يقوم احتمالُ التطهّر (الكاثارسيس/ حلّ الأزمة الجماعية) في عذاب البطل وموته. أجل، تشترط التراجيديا أن يكون البطل "ضحية" ومذنبا في آن، لكي تأتي التضحيةُ به شرعيةً والتطهّرُ فعّالاً.
لبنان، ضحية ومذنب في آن. مذنبٌ بشكل واع ومباشر وإراديّ، وهو ضحيةٌ تكاد لا تثير الشفقة، لانتفاء براءتها من كل ما يحصل لها. هذا كلّه يجعله تراجيديًّا بامتياز. عذابُ أيّوب الذي يُذكر مرارا في أحاديثنا اليومية تشبّهًا به، أو تنافسًا معه في أن محنتنا لا تنتهي، وهي بذلك تتفوّق على محنته، لا ينطبق علينا فعلا، فأيوب بريء لم يأتِ ذنبا، هكذا تقول روايتُه، أو لنقل إنها رست على هذه الصيغة، بما أن أخرى سابقة كانت تحكي "ندامة" أيّوب، ومعناه أنه كان قد ارتكب ذنبا ما ليندم على ارتكابه. لكنّ الصيغة الرسمية والشائعة تزعم إنه بريء كليا، وإنه قد رضخ لمشيئة الربّ، فكوفئ واستعاد، في النهاية، العافية واليُمن.
نحن لسنا أبرياء. نحن لنا يدٌ في كل ما نعيشه اليوم من مِحن، ولذا فإننا الآن نموت. هذه هي التراجيديا اللبنانية في أبهى تجلّياتها: لا أفق، لا أمل، لا خلاص. الأفعى التي تُقطّع تنمو أجزاؤها من جديد برأسين بدل الرأس الواحد. هكذا، إلى ما لا نهاية. وسيزيف يصعد بالصخرة إلى أعالي الجبل، لكي تتدحرج، فيعيد الصعود بها. يروي هوميروس أن سيزيف الذي كان تاجرا عبر البحار، قد عُرف بكثرة الخداع والجشع واعتُبر من أمكر الناس وأشدّهم خبثا على الإطلاق، ناهيك عن اعتداده بذاته وإيمانه بذكائه الذي يفوق برأيه كل ذكاء. ننسى أن قدره (عقابه) هو قصاصُ من الآلهة، أن يدحرج الصخرة، ثم يفلتها في كل مرة يبلغ بها القمة، ليبدأ من جديد. نبكي سيزيف وننسى ذنبه، تورّطه، خداعه، جشعه، غروره. ننسى. تراجيديا النسيان. تراجيديا أن يسيل وجهك في المرآة، فتتنكّر لملامحك وتتنصّل من ذاتك. سبع سنوات عجاف. سبع بقرات سمان. سبع عقود عجاف. سبع آفات. الحرب. السلام. الفساد. البطالة، الفقر، كورونا، وقريبا الجراد. لو كنّا أبرياء، لكان هناك ما ينقذنا. لالتفت الربّ إلينا مثلما التفت إلى أيوب بعد طول معاناة. لما قادنا العميانُ وخطب فينا البكمُ وطبّبنا المجذومون. لتوقّفت الذئاب عن نهش لحومنا والعقبان عن نقر أكبادنا.
لسنا أبرياء. بل نحن متورّطون حتى العظم في إسالة دمائنا التي أغرقتنا. لقد حملنا السلاح، وقتلنا أخانا، وكرهنا قريبنا، وسرقنا الضعيف، وصفّقنا للقوي الجبّار، واستقوينا على الضعيف، واحتقرنا الخاسر، وضحكنا لشقاء الآخرين، وطمعنا، وتعنّتنا، وصممنا آذاننا، وأغلقنا أكفّنا، وأغمضنا أعيننا، وانسحبنا وتملّصنا وتآمرنا، وكذبنا وادّعينا وغششنا، ودلّسنا وزوّرنا، وشوّهنا وخرّبنا ووسّخنا، وحوّرنا وحرّفنا ومسخنا، وظلمنا وقسونا وتجبّرنا واتّهمنا وخوّنا... أجل، فعلنا هذا كلّه وأكثر. واليوم، إذ تطاردنا أشباحُنا، مذعورين أن تلحق اللعنةُ القاتلة بفلذات أكبادنا، ترانا لا نجرؤ على طلب السَّماح حتى، مخافة أن تتذكّرنا اللّعنةُ التي نسينا.
الحقيقة، وعلى الرغم من كل ما فعلنا، لسنا ننوي أن نعترف بذنوبنا، ولذا، فلن يقوم لنا كاثارسيس يخلّصنا.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"