لا وقت للانتظار

لا وقت للانتظار

24 فبراير 2020
+ الخط -
منذ عقود، تمر المنطقة العربية بمرحلة سيولة واضطراب إقليمي، تشمل أزمات داخلية وتراجعا في مؤشرات القوة الشاملة لمعظم الدول العربية. ما يفضي بدوره إلى تزايد الصراعات القائمة حدّة وانتشاراً، وظهور نزاعات جديدة متفاوتة الدرجات والأنماط. ونتيجة هذا التفاقم متعدّد الطبقات، صارت المنطقة أشبه بآلة بخارية يتصاعد الضغط داخلها نتيجة تفاعلاتٍ منفلتةٍ وتغذيةٍ تراكميةٍ غير محكومة، حتى توشك على الانفجار، فتظل، في أفضل الأحوال، في وضع ملتهب على مختلف الاتجاهات.
في هذه البيئة المتأزّمة، لم تعد المنطقة تملك رفاهية التحليل والتأمل فيما تتعرّض له من أزمات ومشكلات، إذ لم يعد الوقت يسمح بالتأني والبحث في جذور ذلك الوضع المتردي وخلفياته، خصوصا بعد أن أمضت الشعوب العربية أزمنة متعاقبة، تتداول في الدوافع والمسببات، وتبحث مليّاً في العوامل وراء ذلك التدهور الداخلي، فضلاً عن التكالب الخارجي الذي تواجهه باستمرار.
مثلاً، ظهرت منذ عدة عقود أفكارٌ حول تقسيم المنطقة، وتفكيك دولها إلى دويلات صغيرة. وتحولت من أطروحاتٍ متداولةٍ عبر وسائل الإعلام، وتصورات افتراضية، إلى واقع على الأرض. سواء بشكل رسمي، كما حدث بانقسام السودان إلى شمال وجنوب، أو واقعياً فقط، كما يحدث في سورية واليمن وليبيا، بل إن دولا لم تدخل بعد في مرحلة الفوضى الكاملة أو التفكك الفعلي، مثل العراق، خرجت اقتراحاتٌ بتحويلها إلى دولة فيدرالية، وهي في مضمونها دعوة أو إعلان نوايا في الاتجاه نفسه.
لو لم يكن لدى العرب ما يستحق لما كانوا مطمعاً لأيٍ كان، لكن المسؤولية الذاتية عن ذلك المنحدر مؤكّدة، ولا يمكن التنصل منها، فالمؤامرات لا تنتقي الشعوب العربية دون غيرها.
وبعد أن تحولت الأفكار التي كانت تعد سيناريوهات خيالية إلى واقع فعلي قائم على الأرض ومستمر، فإن عدم التحرّك عربياً لمواجهتها، والحيلولة دون اكتمالها، يعني ببساطة قبولاً ضمنياً ودعوة مفتوحة للمُضي فيها وتطبيقه في حالات أخرى، فبعض الدول العربية تظن أن في وسعها البقاء والاستمرار، بل والازدهار، من دون تنمية اقتصادية وإنسانية، أو حد أدنى من الخدمات الأساسية، وفي مقدمها التعليم والصحة. وليس أدل على ذلك من أن الدول الناجية من طوفان التفكيك والتشتيت والانهيار هي فقط التي تمتلك تلك المقومات الأساسية، ويتجلى ذلك النموذج بصورة شبه مثالية في دول مجلس التعاون الخليجي.
وفضلاً عن الأسباب الأصلية لذلك الخطر الداهم، لا بد عربياً من الانتباه، وتلافي أسباب التأخر في مواجهته، وفي مقدمها النزوع العربي إلى الفردانية والاغترار، فكل الدول التي تعرّضت لانهيار، أو في سبيلها إليه، لم تستشعر خطراً مما يجري حولها، حتى داهمها فعلياً، بعد فوات الأوان وانسداد سبل الاستدراك أو النجاة.
صحيح أن هناك محاولات عربية لوقف ذلك الزحف التفكيكي، واستدراك ما يجري لاستعادة الدولة في سورية واليمن وليبيا. ولكن يجب تكثيف تلك الجهود وتحويلها إلى حملة عربية جماعية، لضمان تماسك "الدولة" وبقائها في عموم الدول العربية. والاقتناع بأنها مواجهة مصيرية ومسألة بقاء، وليست مجرّد تهديد لمصالح الدول.
ولأن تلك التهديدات والمخاطر ليست حديثة، ولم تنبع من فراغ، وإنما سبقتها إشارات ومقدمات كثيرة ممتدة سنوات مضت، فإن تأجيل التعاطي معها وعدم استشعار عمق وإلحاح خطورتها في الوقت المناسب، هو ما أفضى إلى تحولها من بوادر أو احتمالات إلى خطر داهم قريب، إن لم يكن وشيكاً.
لا مهلة متاحة، ولا وقت يسمح بمزيد من الانتظار والترقب. وتتوالى إشارات تبلور أوضاع هيكلية جديدة، تحمل تهديدات ومخاطر غير قابلة للاستدراك لاحقاً. لا سبيل لمواجهتها إلا باستباقها وتجفيف منابعها، وإلا ستنقلب السيولة الإقليمية إلى طوفانٍ لن يبقي ولن يذر.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.