الانتخابات البلدية في فرنسا... الخدمات والسياسة

الانتخابات البلدية في فرنسا .. الخدمات والسياسة

23 فبراير 2020
+ الخط -
اقترب موعد الانتخابات البلدية في فرنسا التي ستكون على جولتين، بدءاً من 15 مارس/ آذار المقبل. وعلى الرغم من توقع نسبة عزوف كبيرة من الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم، كما العادة في السنوات الأخيرة، إلا أن هذه الانتخابات ستحمل رسائل عدة إلى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قبل عامين من تاريخ الانتخابات الرئاسية، وبعد أن كان الرئيس الآتي من حزبٍ تشكل عشية الرئاسيات، وبالتالي، تعتمد قاعدته الانتخابية أكثر على الاستقطابات والتحالفات منها على الانتماء أو العقيدة، إن كان من الممكن بعد الحديث عن عقيدة حزبية أو ما شابه في زمن أفول الأحزاب التقليدية.
يعتبر الفرنسيون عموماً أن رئاسة البلدية ليست منصباً سياسياً بقدر ما هي موقع خدمي. لذلك، أجمعت الدراسات العلمية التي تناولت الانتخابات البلدية، منذ نشوء الجمهورية الفرنسية، على أن خيار الناخب يستند أساساً إلى قدرة المرشحين والمرشحات على تقديم أفضل الخدمات وخدمة المدينة أو القرية بما يتلاءم مع مصالح ساكنيها، فنرى مثلاً استمرار بعض الرؤساء مُدداً طويلة نسبياً، وهذا لا علاقة له بمرض العالم الثالث الاستبدادي، بحيث يتسلط الرئيس على الموقع، ولا يتركه إلا موتاً أو طرداً، بل أساس الديمومة هو أداء هذا الشخص في المجال المحلي. وتبقى هذه الملاحظة غير قابلةٍ للتعميم، ويجدر بنا أن نتوقف عند استثناءات لهذه القاعدة، خصوصاً عندما نقع على بعض النماذج الفاسدة، كما هو معروف عن مدن كبرى، كمدينة مرسيليا مثلاً. في المقابل، يمكن تفسير هذه الاستثناءات أيضاً باعتبار أن الوصول إلى هذا المنصب في بعض البلديات مرتبط بالشبكات المصالحية وبالسيطرة الاقتصادية في المدينة.
ولافت وجود رؤساء بلدياتٍ من حزب يساري في مدنٍ يغلب عليها الطابع اليميني، والعكس 
صحيح، الذي يمكن قياسه من خلال متابعة نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية. إلا أن المعايير الأساسية تعتمد أداء هذا الرئيس، ومدى قربه من ساكني المدينة، ومدى إنجازاته الملموسة بعيداً عن الخطاب السياسي.
وقد استنكرت أخيراً مجمل الأحزاب التقليدية، من يمينية ويسارية، رغبة وزير الداخلية الفرنسي التي عبّر عنها بمذكرة إدارية، تدعو إلى عدم الأخذ بالاعتبار اللون السياسي في حساب النتائج النهائية، في ما يتعلق بالمدن والبلدات التي يقلّ عدد ناخبيها عن 3500 ساكن. وقد اعتبرت هذه الأحزاب، المعارضة لسياسة الحزب الحاكم، أن من وراء هذه الفكرة، التي جاءت لتلبية طلب واضح من جمعية رؤساء البلديات التي يرأسها عضوٌ في أحد هذه الأحزاب، سعياً من حزب رئيس الجمهورية حديث التشكل، لإضعاف مكانة الأحزاب التقليدية، وخصوصاً أن المدن والبلدات المعنية بهذه المذكرة تتجاوز في نسبتها نصف البلديات المنتخبة.
مع عدم الربط التلقائي بين نتائج الانتخابات البلدية والتوجه السياسي العام في البلاد، يمكن المراقبَ أن يستنتج من تغير الألوان الحزبية للخريطة الانتخابية نسبة تراجع تيار سياسي محدد أو تقدّمه. فالتجمّع الوطني، وهو حزب اليمين المتطرّف، منظّم إلى درجة أنه قادر على حشد جُلّ ناخبيه للاقتراع لمرشحه. ونسبة العزوف عن التصويت لدى منتسبيه ضئيلة للغاية، على العكس من بقية الأحزاب، فهو إذاً يتقدّم منذ سنوات في المشهد البلدي. يُضاف إلى ذلك الخطاب الشعبوي التخويفي الذي يعتمده مرشّحوه، والذي يتمكن، في ظل الأزمات الاقتصادية المستدامة، من جذب الاهتمام، ويُدغدغ مشاعر عدد لا بأس منه من الفرنسيين، معتمداً مسألة التخويف من الأجانب، واتهامهم بكل الموبقات من أمنية إلى اقتصادية، وصولاً إلى الانغماس في إسلاموفوبيا وقحة.
إلى جانب اليمين المتطرّف، يبدو أن المجموعات المتنبهة إلى أخطار التدهور في المشهد البيئي تحظى بدرجةٍ مرتفعة نسبياً من الاستماع لدى الناخبين؛ فمع الإحساس الملموس والمتنامي بالآثار الكارثية للتلوث البيئي الذي تضافرت، إلى جانب الوعي الضعيف للعامة، مصالح اقتصادية وجيوسياسية وسياسية للنخبة في تعزيزه، فإن الحذر من الخطر المُحدق بمستقبل الأرض التي يعيشون عليها، قد دفع إلى تعزيز شعبية الأحزاب الداعية إلى حماية البيئة، والمتحالفة بشكل ناجح عموماً فيما بينها. وسمح لها بأن تسجل تقدّماً ملموساً، وتعزّزت حظوظه في الوصول إلى رئاسة بعض البلديات.
ومن ملاحظة البندين الأكثر جذباً للناخبين العاديين، وبحثاً عن مغازلة الطروحات المتطرّفة 
لبعض اليمين، والمطالبات البيئية لبعض اليسار، فقد عزفت الأحزاب التقليدية مقطوعةً هجينةً في خطابها السياسي، دمجت فيه الخوف من الأجانب بمسألة حماية البيئة. وقد سعت في ذلك إلى مغازلة الخائفين من الأجانب، والمسلمين خصوصاً، وأدخلت في برامجها بنوداً تُشير إلى اهتمامها بالجانب البيئي ومستقبل الأرض. وإن كان الحديث عن البيئة وضرورة الحفاظ عليها أمراً جامعاً، إلا أن الرغبة في مجاراة المتطرّفين في خطابهم المعادي للأجانب تجرّ إلى الوقوع في فخ الشعبوية التي تتجاوب مع ما هو رائج، وهذا ما برز خصوصاً في خطاب الرئيس ماكرون قبل أيام، المتعلق بالمسلمين، حيث وصل إلى اعتبار أن جزءاً منهم في فرنسا يُشكل جانحةً "انفصالية" عن الجمهورية.
في ظل فقر الإنتاج الفكري الذي يمكنه أن يضع برامج عمل، يعمد بعض الساسة إلى ركوب أمواجٍ يمكنها أن توصلهم إلى القمة، ويمكنها أن تسبب تسونامي يتعارض مع كل مبادئ الجمهورية.