معسكر الثورة المصرية الشاغر

معسكر الثورة المصرية الشاغر

21 فبراير 2020
+ الخط -
"المعسكر البطّال تكثر مشاكله".. مقولة إحدى أدبيات الجيش المصري في عهده السعيد الأول؛ أي عهد عدم مخاصمته الشعب ومقاومته الثوار، وتعني أن بعض الجيش، إن لم يجد ما يشغله أو يفعله، صار "بطالًا". تصدق المقولة للأسف أيضًا على معسكر الثورة المصرية الآن؛ فلا منهجية ولا خطة ولا رؤية لديه، ولا حتى مجرّد أمل في وحدة الصف الثوري على المُتفق عليه، وبالتالي وصوله إلى خطة عمل تأخرت سنوات للخلاص من الموقف المؤسف الذي وصلتْ إليه مصر.
كيانات مُفترضةٌ لخدمة الثورة المصرية قامت ثم انفضتْ؛ فلا عرف ثائر أو مناضل لماذا قام التحالف الوطني لدعم الشرعية ولم يستمر، وكذا المجلس الثوري المصري، والبرلمان المصري في الخارج في صورته المُجمعة للانتماءات المختلفة الأولى.. وهلم جرًا. كيان تلو الآخر، ونهاية مؤسفة تلو الأخرى؛ إما بالتفكك والذهاب بلا عودة، أو حتى إشعار آخر بسبب الخلاف والاختلاف ومن ثم الانتهاء؛ أو الانزواء على هامش الحياة (لا الثورة المصرية فحسب).
هذا بالإضافة إلى كيانات أُعلِنَ عنها، وتم "تجميع" أعضائها عبر "واتساب" وعلى عجل قبل ذكرى الثورة؛ وبالتالي جاء عمرها "مُبسترًا" إذ ولدتْ قبل الأوان بأوان، فعاشتْ قليلًا جدًا؛ والنتيجة المُؤلمة توغل الظالمين المُجرمين في إجرامهم؛ واشتعال المعسكر المفترض أنه ثوري بنيران التهام بعضه بعضًا!
أقسم أحد نشطاء الثورة الليبية، والدموع ملء عينيه، في أحد المؤتمرات في إسطنبول قبل أشهر، بأن قوى الثورة الليبية المضادّة لم تتجرأ على حمل السلاح علنًا على الثوار، إلا في اليوم التالي 
لإعلان الانقلاب في مصر؛ بعد أن أطمأنتْ لاستقراره المبكر، ومن قبل كانوا يكيدون من الخلف وفي السر والخفاء. ماذا يتبقى إذًا من الثورة المصرية وتنشيط رئتيها، بل مسامّها، في محاولة لإعادة الحياة بين أروقتها؟ ماذا يتبقى من أمل، إن لم يكن هناك جهد حقيقي اليوم لتوثيق دقيق (أو حتى شبيه) بعدد الشهداء والمصابين والمحتجزين والمُطاردين؛ وكيف يُنفق أهالي هؤلاء جميعًا؟ وماذا ينتظرهم في غد، إن لم تكن هناك استطاعة لإغاثتهم؟ وماذا يتبقى من أمل لاستمرار مواكب الثورة، إن لم تتم دراسة الأخطاء والخطايا التي وقع الحراك الثوري فيها إجمالًا، وعلى قمته وسُدته جماعة الإخوان المسلمين؟ وماذا عن محاسبة المخطئين في العلن، لا مجرد اللوم في السر؟ وماذا عن إعلان المراجعات على رؤوس الأشهاد؛ كما جاءت الهزائم الثورية تترى ويتبع بعضها بعضًا في العلن، لا الكتمان؟ ثم ماذا عن المراجعات الحقيقية، بدلًا من التي تجرى في لجان تم انتقاؤها بعنايةٍ قصوى، لتُصدرَ ما يعبر عن رضا القيادات؛ ثم تذهب النتائج إلى الأدراج؟
أما النتيجة الحالية فبقاء الوضع مُجمّدًا لمصلحة قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي في البداية والنهاية؛ وبالتالي إهدار آلاف الكفاءات النادرة في المنافي؛ في داخل الكنانة وخارجها .. لأن القيادات لا تريد أن تغير من أماكنها، أو حتى ترضى بأن يُشار إليها بأصابع الاتهام. ومِن 
الأخيرين مَنْ يجدون وقتًا وقدرة ووفرة من مال، بعد السعي خلف متطلبات الحياة الضرورية، وهؤلاء في مصر وخارجها ينتمون للمعسكر "الثوري البطال"؛ فيفتعلون معارك جانبية بالغة التفاهة، لتكريس مفهوم أن البلاء والمصاب الثوري عظيمٌ ضخمٌ. والأخيرون وما يطرحونه من صغير القلاقل يثبتون عمليًا به أن مسيرة الإصلاح أكثر صعوبةً من المُستطاع المُمكن؛ ومن تلك الترّهات وسفائف الأمور وسطحيها الذي يطرحونه: هل الذين يموتون وهم ضد الثورة، أو حتى محايدون منها؛ يجب لعنهم أم الترحم عليهم؟ والملحدون (بعد إيمان) هل تجوز صلاة الغائب على أرواحهم؟
وهكذا يتجدّد التركيز على مثل هذه الأمور التي لا تتعلق لا بالثورة، ولا بالحياة من الأساس، وإنما هي من أعمال السيادة الإلهية (إن جاز التعبير)؛ فإن شاء تعالى عذّب، وإن شاء غفر. وفي سبيل مثل تلك المتاهات يختصم أناس، الأصل فيهم أنهم يفهمون موقفهم العصيب من الحياة اليوم، ووجود مئات آلاف من المُضارين هم في أمس الحاجة الملحة وأشدّها للبحث عن حل، وبدلًا من التفكير فيه، يروح "الثوار" يتشاجرون، ويتهم بعضهم بعضًا، ويعلو صراخهم!
افتقد الثوار والمصلحون في مصر، سواء أقاموا في الكنانة أو اضطرّوا للخروج منها، قائدًا أكبر وقيادات عاقلة حكيمة من خلفه، تنظر في اللحظة الراهنة المريرة؛ ومن ثمَّ تُغلب مصلحة الأمة على مصلحتها، فتعالج الأمور بدلًا من ترك المعسكر الثوري والإصلاحي فارغًا، يعاني من البطالة الفكرية واللفظية والمنطقية؛ وبالتالي الحركية.