صفقة القرن بتوقيع جوناثان بولارد

صفقة القرن بتوقيع جوناثان بولارد

03 فبراير 2020
+ الخط -
مثّل إطلاق "صفقة القرن" حدثاً كبيراً من زوايا عديدة. وجاء إعلانها بعد حروب على جبهاتٍ كثيرة، ومواجهات أقل حدّة، ومفاوضات سرّية وعلنية. وجاء إعلانها أيضاً بعد تحولاتٍ غربيةٍ كثيرةٍ، من ضمان وجود إسرائيل، إلى ضمان تفوّقها، إلى الإصرار على الاعتراف بها كـ "دولة يهودية". وفي المقابل، تحوّلت المواقف الرسمية العربية من الصلابة، إلى رفع "شعار الواقعية"، وصولاً إلى تبنّي بعضهم "السردية الصهيونية" في الأصول والتفاصيل، ومن ثم الاعتراف بإسرائيل بأنواعه كافة: الصريح والضمني والسرّي. 
شهد عام 2015 الإفراج عن المواطن الأميركي اليهودي الذي تجسّس على بلاده لحساب إسرائيل، جوناثان بولارد، ما اعتبر تغليباً لولائه وقناعاته الدينية الداعية إلى أن يكون ولاؤه لإسرائيل على ولائه لوطنه. والجاسوس الذي رفض كل الرؤساء الأميركيين العفو عن عقوبته (السجن 30 عاماً) منذ سجنه عام 1986، على الرغم من تكرار رؤساء وزراء إسرائيل الطلب بإلحاح لا ينقطع. وكان الإفراج عن بولارد قراراً اتخذه الرئيس باراك أوباما، بعد وصول العلاقات الأميركية الإسرائيلية إلى حالة علنية من التأزم الطويل، يمكن اختصارها في عبارة واحدة: "المصالح العليا للدولة الأميركية لا تتطابق مع مصالح إسرائيل". وكانت هذه المسافة خلاصة قصة بولارد: أن القناعات العقائدية يجب أن تتحوّل إلى سياسات، وبالتالي لا تعارض بين ولائي لأي من الدولتين: أميركا وإسرائيل.
واليوم تعلن صفقة القرن وكأنها: "بتوقيع الجاسوس جوناثان بولارد". والواقعة في "السياق الأميركي" تحمل دلالات تبلغ الغاية في الأهمية، خصوصا لجهة مستقبل العلاقات بين أميركا والعرب والمسلمين، فقد كانت الصهيونية لعقود "رقماً حائراً" في الخطاب الثقافي العربي بين تفسيراتٍ لا مجال للجمع بين مقتضياتها جميعاً من دون قدر كبير من التلفيقية، فهي في هذا الخطاب: دينية، وعلمانية، وكولونيالية، وحركة قومية، وداروينية، ونازية، وحاملة طائرات أميركية، و"مؤامرة يهودية أزلية"، و... والجغرافيا منحت أميركا لعقود فرصة ألا تكون متورّطة في منطقتنا الغارقة في اضطراباتٍ مزمنةٍ، فكانت تستطيع بناء علاقاتٍ تحقق لها الأهداف الاستراتيجية الأميركية التقليدية (أمن إسرائيل، تدفق النفط، حرية الملاحة)، وهي في هذه العلاقة كانت قادرة على جعل القضية الفلسطينية "موضوعاً خلافياً" لا يفسد للود قضية، وكانت المواقف الرسمية العربية تؤكّد لها بوتيرة متصاعدة أنه موضوع يتجه بشكل مضطرد من "المتن" إلى "الهامش".
لكن المثير، وهو مثير بالفعل، أن التحولات في الغرب، بشقيه الأوروبي والأميركي، وفي 
إسرائيل، جعلت الدولة العظمى تتورّط أكثر في جعل إسرائيل تتحوّل من موضوع خلافي إلى معيار رئيس في تقييم كل صناع القرار العرب، وموقفهم من الدولة العظمى التي وفرت لها الجغرافيا مهرباً، بينما جرّتها "أصوليّتها البروتستانتية"، قبل أي اعتبار آخر، إلى الركض السريع، لتقف في خط المواجهة. كانت أوروبا، ذات التاريخ الطويل من المواجهات العسكرية وغير العسكرية مع العرب والمسلمين، تؤكّد بشكل مقصود علمانيتها، ومن ثم قطيعتها مع حقبتي الحروب الصليبية والحروب الاستعمارية، وصولاً إلى الرعاية البريطانية الفرنسية للصهيونية، ثم الدور الفرنسي في جعلها دولة نووية. وبدءًا من 1967، حدث تحوّل كبير، رجحت فيها كفة أميركا في رعاية إسرائيل، لأسباب يطول شرحها. ومع كل خطوة، كانت أميركا تقترب فيها من إسرائيل، كانت أوروبا تبتعد عنه، وكان الأمر، إلى حد بعيد، مرتبطاً بغلبة "العلماني" على "الديني". وبعد تأرجحٍ طويل، أربك كثيرين، توهم رئيس الوزراء الصهيوني السابق، إيهود باراك، أن الكيان الحائر بين هويتين سيؤكد علمانيته، مؤكّداً عام 2000 عن مشروع "دستور علماني".
وفي الحقيقة، لم تكن هذه القضايا ترفاً معرفياً أو ثقافياً أبداً، بل كانت محرّكاً رئيساً للأحداث، حتى لو تعمّد "الإعلام الرسمي العربي" إخفاء ذلك، فقد كان التاريخ الأوروبي الطويل لـ "المسألة اليهودية" (وصولاً إلى "الهولوكوست") مادة لاستثمار سياسي مكيافيللي من الصهاينة، وكان استخدامه لتبرير اغتصاب فلسطين تأكيداً لحقيقة أن "الفكرة" تلعب دوراً كبيراً في رسم مسار مصيرنا، وأن "المصالح" لم تستطع فك شفرة المواقف الغربية، (وخصوصا الأميركية)، فالمصالح الأميركية كانت دائماً معنا، نحن العرب: النفط، حرية الملاحة، أمن أوروبا، .. لكنها كانت دائماً تنحاز لإسرائيل، (حرفياً)، بالتضاد مع مصالحها.
واليوم يقرّر ترامب، بالضبط كما فعل بولارد، أن المسافة بين العقائدي والسياسي زالت، وهذا أخطر ما في الإعلان عن الصفقة.