حاشية فلسطينية

حاشية فلسطينية

03 فبراير 2020
+ الخط -
أسوأ ما في رداءات الحالة الفلسطينية، رسميا وشعبيا، أن حدثا كبيرا يجعلها تشتعل بالسخط والغضب والوعيد، أياما أو أسابيع، ثم تبترد وتبرُد. عوين ذلك إبّان أكثر من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة (والضفة الغربية، كما "الدرع الواقي" في العام 2002)، وعندما يُعلن الاحتلال مشروعا استيطانيا كبيرا، ولمّا سمّى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس عاصمةً موحدة لإسرائيل. ولكن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، حسين الشيخ، يقول، هذه المرّة، إن مرحلة ما بعد "صفقة القرن"، ليست كما قبلها. ويخبر الرئيس محمود عبّاس العرب إنه أبلغ إسرائيل، في رسالةٍ منه إليها، بقطع العلاقات معها، وقال إنه لم يردّ على مكالمةٍ من ترامب، ورفض تسلّم رسائل بعثها الأخير إليه. ويعني هذا كله أننا، ربما، أمام انعطافةٍ في الحالة الفلسطينية، المعطوبة أصلا، وإنْ ليس في الوسع أن يعرف واحدُنا، على وجه اليقين، ملامح هذه الانعطافة وخطوطها. ومع الإعلان عن مشاركة الرئيس عبّاس في جلسةٍ لمجلس الأمن بعد أسبوعين، سيعرض فيها الرفض الفلسطيني العام لما سمّاها ترامب "خطة السلام على طريق الازدهار" (الاسم الرسمي الأميركي للصفقة)، ويقترح مشروعا بديلا، يقومُ على عقد مؤتمر دولي للسلام، يُفضي إلى مفاوضاتٍ إسرائيليةٍ فلسطينيةٍ، على قاعدة قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية.
طيّبٌ أن يخاطب عبّاس مجلس الأمن، على أن يعرف ماذا يقول، وأن يؤشّر، بإيجازٍ وبلغةٍ راقيةٍ، إلى خلو خطّة ترامب من أي سببٍ لقبول الفلسطيني بها، غير أن المقترح الذي سيطرحه لن يلقى غير الفشل، وسيكون موضوعا لثرثراتٍ عابرة. وهو شاهدٌ جديدٌ على علةٍ متوطّنةٍ في العقل السياسي الحاكم في القيادة الفلسطينية الراهنة، عندما لا ترى هذه القيادة قدّامها أي خيارٍ تواجه به كارثةً، من وزن صفقة ترامب ونتنياهو، سوى النشاط الدبلوماسي، فيما إمكاناتٌ أخرى ما زالت باقيةً في الجسم الفلسطيني، في الوُسع استنهاضها لتكون من السبل القوية في مقاومة الصفقة. وهي في المناسبة ممكناتٌ واجبةُ التحقق، قبل أن يجهر ترامب بخطّته المقيتة، من قبيل إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، وتجديد مؤسساتها، وإحالة كثيرين من الجالسين فيها إلى التقاعد، وكذا البدء باستراتيجية مقاومةٍ مدنيةٍ للاحتلال، يعرف أهل الميدان صياغتها، وتعيين ممكنات الفاعلية فيها، وتجنيب الشعب الفلسطيني أكلافا باهظة في غضونها، مع حمايةٍ سياسيةٍ، ذات خطابٍ وطنيٍّ متقدّم، لفعل المقاومة الكفاحية المسلحة التي لا يحتاج شبابُها من معلقٍ متعجّل، كما كاتب هذه السطور، إلى دروسٍ لا توقعهم في مسالك انتحارية، لتكون مبادراتهم نوعيةً موجعةً للمحتلين، لا مبعث غبطةٍ دعائيةٍ له عندما يُرمى مدنيون إسرائيليون.
أما وأن الموسم، في هذه الأيام، هو لعن اتفاق أوسلو، ودعوة السلطة الفلسطينية إلى التحلّل منه، وحلّ نفسها، ومطالبة الاحتلال بأن يتولّى مسؤولياته (!)، وما يشابه هذا الكلام الذي يستسهل أصحابُه رميَه كيفما اتفق، (يحوز رضىً وقبولا من أوساطٍ شعبيةٍ واسعة)، فإن أول ما يمكن الردّ عليه أنه صار مُضجرا، من فرط مواظبة ناس هذا الكلام على إشاعته. وثانيا، يُرجى من هؤلاء أن يدلّوا آلاف الموظفين والعاملين في مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية على مصائر يمضون إليها، عندما تنحلّ السلطة، ذات الدور الوظيفي المعلوم، وعندما لا ترى إسرائيل أي مسؤوليةٍ عليها في شؤون التعليم والصحة والإسكان وتدبير الشؤون المدنية لأهالي الضفة الغربية وقطاع غزة، وعندما لا يرى الحكم في عمّان مصلحةً أردنيةً في العدول عن قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية (1988). وقبل ذلك وبعده، من قال إن اتفاق أوسلو هو السبب في كارثة صفقة القرن، وسابقاتها من كوارث غير قليلةٍ في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ لا يكفي التسليم البديهي بأن هذا الاتفاق سيئ (الموقعون عليه يعرفون سوءَه) لتلحق به تبعاتُ كل عجز فلسطيني ظاهرٍ عن فعل أي شيء. عدا عن أن رافضي هذا الاتفاق واستحقاقاته وجداوله الزمنية وترتيباته من الجانب الإسرائيلي قاموا بالمهمة التي ظنّ معارضوه الفلسطينيون أنهم يؤدّونها، فأولئك أوقفوا هذا الاتفاق عند حدودٍ معينة، فلم يتم إنجاز كامل مترتّباته، ما يتطلب الكفّ النهائي عن شرشحة "أوسلو"، بمناسبةٍ وغير مناسبة، عدا عن أن في هذه الاتفاق، المثقل بالسوءات، ما يوفر الكثير لمقاومة صفقة القرن،  وهذا موضوعٌ آخر.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.