مملكة "داعش" التوراتية

مملكة "داعش" التوراتية

20 فبراير 2020
+ الخط -
دار، في نهايات شهر يونيو/ حزيران العام 2011، خلاف لافت في كيان العدو الصهيوني، نقلته وكالة رويترز، ووسائل إعلام عبرية، حول ما إذا كانت الصلاة العبرية لإحياء "يوم الذكرى" يجب أن تبدأ في مراسم عسكرية بعبارة "لعل الله يذكر"، أو "لعل شعب إسرائيل يذكر". وأدّى النقاش الحاد بشأن هذا الموضوع إلى انقسام بين اليهود العلمانيين والمتدينين، ما دفع لجنة برلمانية إلى المطالبة بتدخل حكومة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، للبت بالقضية. وحسب وسائل الإعلام العبرية حينذاك، انحاز رئيس الأركان الجديد (آنذاك) الجنرال بني غانتس (المرشّح المنافس لنتنياهو اليوم) إلى صف رجال الدين الذين أصرّوا على استخدام عبارة "لعل الله يذكر"، وهو ما أثار شكاوى تفيد بأن الجيش أصبح متعصّبا للغاية. وقال النائب اليساري إيلان جيلون: "سيصبح جيش الشعب شيئا فشيئا جيش الله"، في حين اتهم النائب عينات والف من حزب العمال (كان يصنّف يساريا!) مسؤولين عسكريين، في اجتماع للبرلمان، بإفساد توازن دقيق بين المطالب المتضاربة للإسرائيليين المتدينين والعلمانيين... ربما تصلح هذه الواقعة بداية لتحول إسرائيل إلى مملكة توراتية على نحو شبه كامل، لا دولة علمانية ديمقراطية، ولو بالمقاربة النسبية! 
بعد نحو عقد، يكتب الكاتب اليساري روغل ألفر، الأحد الماضي (17 فبراير/ شباط) في
"هآرتس" مقالة لافتة بعنوان: "إسرائيل وصلت إلى نهاية السياسة"، يعلن فيها اكتمال مشروع مملكة "داعش" الإسرائيلية، أو مملكة التوراة بكامل نصابها، حيث يقول: أجواء آخر الأيام لقدوم المسيح سائدة في إسرائيل في هذه الأيام. اليمين في إسرائيل تتملّكه الحمّى اللاهوتية، فهو يفسّر حلم ترامب كخطة إلهية، وهو على قناعة بأن الخلاص قريب، الجمهور اليهودي في إسرائيل، ببساطة، وصل الى نهاية التاريخ أو نهاية السياسة. لقد انتهى الصراع بين اليمين واليسار، وتم حسمه بالضربة القاضية من اليمين. ويختم مقاله المثير بالقول: "سلطة القانون هزمت وأصبحت من التحف. وحلت مكانها سلطة الأغلبية اليهودية. في عهد نهاية السياسة، فإن اليساريين غائبون عن خريطة الإعلام والخطاب العام، مثلما تبخّر الشيوعيون بعد سقوط سور برلين، بالمناسبة. نتنياهو سينزل عن الحلبة لاحقا، لكن نهجه انتصر وبشكل ساحق"!
الكاتب نفسه، ويوم 27/8/2017 وفي الصحيفة نفسها، توقف مليا أمام نص صلاة "يوم الذكرى" المذكور آنفا، واسمه الرسمي: "يوم ذكرى شهداء معارك إسرائيل"، ويحتفل به كل عام في الرابع من شهر مايو/أيار حسب التقويم العبري، هذه "الصلاة" تقول: اللهم رحماك، أيها الساكن في الأعالي، مراتب المقدّسين والطاهرين والأبطال، لأرواح الجنود والمجندات الذين ضحّوا بأرواحهم في سبيل الله، وبعون إله معارك إسرائيل، وحققوا قيام الأمة وخلاص البلاد، الله هو نصيبهم ومسكنهم الجنة". ويعقب عليها: حسب هذه الصلاة، فان جنود الجيش الإسرائيلي يموتون في سبيل الله. ومن هنا فإنهم في قتالهم وموتهم ينفذّون الوصية الإلهية، التي تلزمهم كيهود بالتضحية بأنفسهم في سبيل الله. هذه "الجهادية" يتم الإعلان عنها بدون زيادة أو نقصان ولا تزيين في صلاة استذكار الأرواح الرسمية في المراسيم الرسمية في يوم الذكرى. وبكونهم مقدسين، فإن مكانهم مضمون في الجنة. وهناك ستكون راحتهم. بماذا يختلف هذا عن ثقافة الشهداء؟ أيضا الشهيد هو الذي مكانه مضمون في الجنة حسب الآية في القرآن: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"!
لا نريد هنا التوقف عند غمز الكاتب من القرآن الكريم، فهو غير مؤمن أصلا بالتوراة، إلا بالقدر 
الذي تتحوّل فيه إلى كتاب فلكلور قومي، لا ديني. ولا يُراد هنا سوق مزيد من الأدلة على جنوح الكيان الصهيوني بكليته، جيشا وشعبا ومؤسسات، وبجنون غير مسبوق، نحو اليمين الصهيوني المتديّن الذي يجد تعبيرا له في حمّى دعوات الإسراع بضم الضفة الغربية، أو معظمها، باعتبارها جزءا من أرض إسرائيل التوراتية. ما يعنينا هنا أن نؤشّر على ضرورة القيام بعملية "تصحيح بصر" لأولئك العرب الذين يتوهمون أن في وسعهم أن يتعاملوا (ويتعايشوا) مع الكيان، كجزء قابل للحياة في المنطقة العربية، في حين أن هذا الكيان (أصبح) غير مستعدٍّ للتعايش مع "مواطنيه" العلمانيين من فلول اليسار الذين يتهمهم بالخيانة، وبالخروج عن صف الإجماع القومي الصهيوني اليميني!
ونستذكر هنا ما كتبه آري شبيط في "هآرتس" أيضا: "دولتنا تلفظ أنفاسها الأخيرة"، حيث أكّد أنّ كلّ شيءٍ أصبحَ ضائعاً، وأنهم وصلوا إلى نقطة اللاعودة، ولم يعد ممكناً على الإطلاق إعادة تأهيل دولة الصهاينة، وإنقاذ ما تبقّى من ديمقراطيّتها، ولا طعمَ للعيش في هذه الدولة، ولا للكتابة والقراءة في "هآرتس"، وعلى الجميع الانصياع لما اقترحه روغل ألفر قبل عامين، مغادرة البلاد باتجاه فرانسيسكو أو برلين. ومن هناك يتابع المغادرون وبهدوءٍ تام انهيارَ "دولة" إسرائيل!
اللافت أن دولة تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف باسم داعش، ووجه بتحالف دولي لسحقه، فيما تحظى مملكة داعش التوراتية بتحالف دولي أيضا لسحق كل من يعارضها، أو يمسّ شعرة من أجساد حاخاماتها ومستوطنيها المهووسين بحمّى الاستيطان والضم وربما الترانسفير.
هل تذكرون مقالة تسفي برئيل في "هآرتس"، تحت عنوان: "رؤية ترامب: سيادة إسرائيلية تستند إلى التوراة وليس إلى اتفاقات دولية"؟