عُقَد النخب السياسية في تونس

عُقَد النخب السياسية في تونس

20 فبراير 2020
+ الخط -
تضطلع النخب السياسية المعارضة، والحاكمة، والمستقلّة في المجتمعات المدنية، التقدّمية، الديمقراطية، بأدوار طليعيّة في نشر ثقافة التعايش، والتنسيب وتكريس التعدّدية، وتأمين التداول السلمي على السلطة، وتساهم في بناء دولة القانون والمؤسّسات. ويُفترض أن تتحلّى بدرجةٍ عاليةٍ من النزاهة، والصدق، والتواضع، والشفافية، والقدرة على نقد الذّات وقبول الآخر. وعلى النخب السياسية توجيه الوعي الجمعي نحو القبول بقواعد الانتظام الديمقراطي، وبمقتضيات عقد الحرّية والمسؤولية، وتحرير النّاس من سطوة العقل الأحادي والحكم الشمولي، والسلوك الإقصائي على نحو يضمن تحويل الديمقراطية إلى حالة وعي شعبي عام. والملاحظ في تونس أنّ الثورة الشعبية ضدّ الاستبداد أسّست نسبيّا لزمن ديمقراطي جديد، جلّته وفرة الأحزاب، وبلورة دستور توافقي، وتوسيع مجال الحرّيات العامّة والخاصّة، وتنظيم انتخابات رئاسية، وتشريعية، أكثر من مرّة. ولكنّ الظاهر، بعد تسع سنوات من الثورة، أنّ معظم النخب السياسية في تونس لم تستوعب الدّرس الثوري، ولم تتمثّل بالدرجة المطلوبة المتن الديمقراطي، ولم تتجدّد على النحو الكافي لمواكبة مقتضيات الزمن التعدّدي، وظلّت محكومةً بمسلّماتها القديمة، وقياداتها الكلاسيكية، وحساباتها العصبية، ولم تنجح في الامتداد في العمق الشعبي، وفي ترسيخ الثقافة الديمقراطية وتعميمها. بل ما فتئت تعاني من أزمات هيكلية وعُقَد بنيوية في الخطاب والممارسة. لعلّ أهمّها الارتهان إلى الأيديولوجيا المغلقة وشيطنة الآخر، والاحتذاء بالزعيم الملهم، وازدواجية الخطاب، وضمور المراجعة النقدية. 
لا يتعامل معظم الفاعلين السياسيين، قبل الثورة وبعدها، مع الأيديولوجيا باعتبارها منظومة فكرية نامية، مفتوحة على الواقع، وقابلة للتطوير والتغيير، بحسب مستجدّات الاجتماع التونسي. بل 
يرون الأيديولوجيا الموجّهة لتصوّراتهم والمنظّمة لسلوكهم عقيدة مقدّسة، ومنظومة مغلقة، تتضمّن أجوبة نهائية، وأحكاما مثالية، لا تقبل النقد أو المراجعة أو التنسيب. وبناءً عليه، يدّعي جلّ المتأدلجين امتلاك الحقيقة المطلقة، وينشدّون إلى شعارات قديمة، ومصادرات جاهزة، يعتبرونها عناوين حلولٍ ممكنةٍ لمعضلات الرّاهن التونسي. خذ مثلا على ذلك تشبث القوميين بفكرة الوحدة العربية ونموذج الدولة الناصرية، واستحضار شق من الإسلاميين فكرة دولة الخلافة ومتعلّقاتها، وترديد اليساريين مقولات رفض الخصخصة، ونقض الرأسمالية، وحنين الدساترة لنموذج الحكم الشمولي، الأحادي قبل الثورة. واللافت أنّ هؤلاء الفرقاء السياسيين لا يكتفون، في الغالب، بالتمترس خلف مربّعاتهم الأيديولوجية، بل يستحضرون في وعيهم أو لاوعيهم خدوش معاركهم العصبية القديمة في الجامعة التونسية، زمن السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وما انفكّوا، بعد الثورة، يوزّعون صكوك الطهورية على أنصارهم وقادتهم فيما يعمدون إلى ترذيل المخالف وشيطنته، وإخراجه من مملكة الحقيقة المزعومة، وذلك في إطار التأسيس للذات عبر تقويض الآخر، فيجري تهميش المخالف وإقصاؤه، بشكل أو بآخر، فقط لأنّه مارس حقّه في الغيرية. وتتحوّل بذلك التعدّدية إلى حالة صورية، تتأسّس على التنافي المتبادل، وعلى ترويج ثقافة الكراهية، وخطاب التخوين، والإقصاء، والتشكيك المرضي في كلّ مبادرة تصدر عن الآخر. وأشاع ذلك عمليّا أجواء عدم الثقة بين الفاعلين السياسيين في تونس، وأثّر سلبا على سيرورة الانتظام الديمقراطي الذي يقتضي التنافس السلمي والاختلاف البنّاء، والتسليم بغيرية الآخر، والتضامن الجمعي في خدمة الصّالح العام.
عقدة الاحتذاء بالزعيم أو اختراعه والتأسّي به هي الأخرى ظاهرة حاضرة في المشهد السياسي المأزوم في تونس، ولها تجلّياتٌ مختلفةٌ، من بينها أنّ جلّ الأحزاب التونسية تدين بالولاء لزعيم روحي تاريخي ملهم من داخل السياق التونسي (عبد العزيز الثعالبي، صالح بن يوسف، الحبيب بورقيبة..) أو من خارجه (جمال عبد الناصر، صدّام حسين، لينين، ماو تسي تونغ ..)، وتضفي على الإرث النظري والعملي لهؤلاء الزعماء هالةً من التمجيد تبلغ أحيانا درجة التقديس، ولا تتعامل معهم باعتبارهم رجال زمنٍ مخصوص، ونتاج بيئة عمرانية محدّدة، وتجاربهم نسبية تحتمل النقد والتجاوز. بل تعمد إلى تأبيد مقولاتهم ونمذجة أفعالهم، وترفض التسليم بأنّهم كائناتٌ تاريخية، يؤخذ منها ويُردّ عليها. والأمر نفسه يسري على القيادات الرّاهنة لمعظم الأحزاب التونسية. فرئيس الحزب نادرا ما يخضع للمساءلة والمحاسبة، وغالبا ما يسأثر بزعامة الحزب عقودا، ويتمّ ترشيحه من دون غيره للانتخابات الرئاسية. ويحدّ ذلك من هامش التجديد والتشبيب والدمقرطة في داخل الهياكل الحزبية التونسية. وعلى الرغم من أنّ الثورة تجاوزت هالة الزعامة، وهشمت سطوة الرئيس، وقادها جموع النّاس لا الزعيم الكاريزمي الملهم، وأسّست لنظام حكم برلماني، فإنّ بعض الشخصيات السياسية أو الأحزاب التي لا تملك عمقا شعبيّا ما انفكّت تبحث لها عن مشروعية من خلال الاستثمار في صورة الرئيس والعمل على التقرّب منه، ودفعه إلى تجاوز صلاحياته الدستورية، وبذل الجهد لاستعادة النظام الرئاسوي الذي يحتكر كلّ السلطات، وعانى التونسيون ويلاته طويلا، وانتفضوا عليه سنة 2011. والارتهان للزعيم عقدة دالّة على عجز النخب السياسية على تجديد هياكلها، وخطابها، وعجزها عن إنتاج منظوماتٍ فكرية، ومناويل تنموية، وبرامج ناجعة، تستقطب النّاس، وتساهم في حلّ معضلات الراهن التونسي المتعدّدة.
على صعيد آخر، يتبيّن المتابع لأداء الفاعلين السياسيين، في سدّة الحكم أو في المعارضة بعد 
الثورة، أنّ جلّهم لا يرى حرجا في ممارسة ازدواجية الخطاب، فتراهم يلهجون بالقول ونقيضه، ويقفون الموقف وضدّه في مسائل شتّى. مثال ذلك أنّ معظم الأحزاب تقدّم للنّاس وعودا ورديّة في أثناء الحملات الانتخابيّة من قبيل تأمين التوزيع العادل للثروة، وتوفير خدمات القرْب، والتمييز الإيجابي لمناطق الظلّ، ومكافحة الفقر، وغير ذلك كثير. لكنّها في الغالب الأعمّ إذا وصلت إلى الحكم لا تبذل الجهد المطلوب لتحقيق تلك الوعود، بل تنصرف إلى تحقيق مصالح حزبيّة ضيّقة. أمّا آخرون فتولّوا قيادة البلاد بصفتهم تكنوقراطيين أو محايدين أو مستقلّين لكنّهم ما لبثوا أن استغلّوا منصبهم الحكومي وموارد الدولة لتأسيس حزب سياسي. وغيرهم يدخل قبّة البرلمان بصفته ممثلا لحزب معيّن، ولطيف من الناخبين، لكنّه ينخرط سريعا في دورة السياحة الحزبية، فتجده ينتقل من حزب إلى آخر، خدمة لمصالحه الشخصية ولمن يدفع أكثر. ومواقف معظم السياسيين متقلّبة من قضايا مهمّة، من قبيل قضيّة التطبيع مع إسرائيل، والعدالة الانتقالية، واستقلالية القضاء، ومكافحة الفساد. وازدواجية الخطاب والسلوك ليست وليدة صيرورة بنيوية فكرية لدى السياسيين. بل هي نتاج خلفيات نفعية فئوية أو شخصيّة. وهي تقلّل من صدقيّة النخب السياسية في نظر النّاس، وتزيد من اتّساع الفجوة بين الطرفين.
بقي من المفيد الإشارة إلى أنّ معظم النخب السياسية في تونس تعاني من عقدة ضمور المراجعة النقدية لمنجزيْها، النظري والعملي، فالحكومات المتعاقبة التي شهدتها البلاد نادرا ما تصارح الرأي العامّ، في نهاية عهدتها، بكشف أهمّ منجزاتها وإخفاقاتها، وبيان سيرورة وعودها ومآلات ما تحصّلت عليه من قروض وهبات. أمّا في الأوساط الحزبية، فإذا استثنينا حركة النهضة التي مارست نسبيّا بعض المراجعات النقدية في مؤتمراتها الوطنية، من قبيل إعلان الفصل بين الدعوي والسياسي، والتخفّف من الانتماء إلى الإسلام السياسي، والإخبار بالانتماء إلى ما يُسمّى الإسلام الديمقراطي، فإنّ بقيّة العائلات السياسية التقليدية (القومية، اليسارية، الدستورية) لم تقدّم بعد مقاربات نقديّة جريئة لإرثها الفكري، ومنجزها السياسي، وأدائها الانتخابي، ولم تُبد بعد محاولات لإعادة بناء منظوماتها الأيديولوجية. ومحدودية المراجعة النقدية تساهم في تحنيط الأحزاب، وتحدّ من مواكبتها تطلّعات النّاس ومستجدّات الرّاهن العمراني وإحداثيات العلوم السياسية.
ختاما، أحرى بالنخب السياسية في تونس أن تفكّك بطريقةٍ موضوعيّة، عقلانية، أزماتها الهيكلية، وعقدها البنيويّة، وتعيد بناء مكوّناتها وآليات عملها، حتّى تكسب ثقة المواطنين، وحتّى تساهم بطريقة فعّالة في مشروع بناء الدولة الديمقراطية العادلة. وإن لم تفعل، ستزداد الفجوة بينها وبين النّاس اتّساعا، ومن غير البعيد أن تواجه انتفاضة شعبية جديدة عنوانها: "ارحلوا جميعا" ..
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.