صفقة القرن مَوَّال في أغنية حزينة

صفقة القرن مَوَّال في أغنية حزينة

20 فبراير 2020
+ الخط -
تابع العالم البرنامج الذي أعلن فيه الرئيس الأميركي، ترامب، صحبة رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، تفاصيل معزوفته الجديدة في موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بعد أن مَهَّد لها بمواقفه المتعلِّقة بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة احتفاءً بالذكرى السبعين لقيام إسرائيل. وبعد أن قدَّم أحد مستشاريه أجزاء من برنامج الصفقة في البحرين، تمهيداً لحدث إعلانها الرسمي نهاية الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، باعتبارها رؤية تستوعب مجموعة بنود هادفة إلى وَقْف الصراع القائم والمتواصل بين الفلسطينيين وإسرائيل، وباعتبار أنها الطريق المفضي إلى الأمن والسلام في المحيط العربي. 
ضربت خطة ترامب، بوقاحة لا حدود لها، مختلف جهود المنتظم الدولي في مجلس الأمن، وتنكَّرت لقرارات الأمم المتحدة ومختلف جهود الاتحاد الأوروبي، وجهود الرباعية الدولية في الشرق الأوسط، ومزَّقت مكاسب تاريخ من المبادرات والعهود التي بُنِيَت طوال عقود، من أجل حَلٍّ منصِف وعادل للصراع.
لم تتردَّد الخطة، في مختلف بنودها، في إلحاق إهانات بالجملة بالفلسطينيين وحقوقهم، للاجئين 
منهم، وقد تعاقبت أجيالهم وتضاعفت محنهم، لفلسطينيي الشتات، وللأرض المستباحة والتاريخ الذي يجرى العمل من أجل محوه، وللذاكرة الفلسطينية التي أصبحت موضوع صفقات عمياء.. كما تنكَّرت لمنطلقات اتفاقية أوسلو ومبادئها (1993). ومقابل ذلك، منحت الخطة إسرائيل أرض فلسطين كاملة، مرحِّبةً بالاحتلال الإسرائيلي وداعية إلى دمج المستوطنات الإسرائيلية داخل الأرض المحتلة. ولم تجد أي حَرَج في إنهاء أي أملٍ في قيام دولة فلسطينية مستقلة، على الرغم من أن بعض بنودها تتحدث بسخرية عن السلام والتنمية، من دون أن تعترف بالمشروع الوطني الفلسطيني.
تضعنا الخطة الجديدة القديمة أمام خياراتٍ معقَّدة، إنها تحصل في زمنٍ يتميز بوضع فلسطينيٍّ عربيٍّ غارق في لحظة تاريخية سياسية، سِمَتُها الأبرز الارتباك والذهول، الأمر الذي يُبرز أن الإعلان عنها في زمنٍ مُمَاثِل لما نحن عليه اليوم، يفيد شكلاً من أشكال التربص بمآلات الواقع الفلسطيني، وتَعثُّر التوافق على البنود التي تَمَّ قبولها في اتفاقية أوسلو، وهي تُعْلَن في زمنٍ تعرف فيه أغلب المجتمعات العربية متاهاتٍ مرتبطة بتداعيات الحراك الثوري الذي شمل بعضها وطال أمده، حيث يتصاعد الصراع الإقليمي والدولي على الأرض العربية.. ويغيب التوازن والاستقرار، وتواصل إسرائيل غطرستها وعنتها داخل الأرض المحتلة، وتنتعش بفعل الصراع المذكور وتوابعه، كثير من مظاهر الطائفية والنزوعات الانقسامية، وكذا التخندقات البينية بين أغلب البلدان العربية.
تأتي الخطة لتمارس على الفلسطينيين والعرب ضغوطاً تجعل بعضهم لا يتردَّد في مباركتها والمشاركة بالحضور لحظة إعلانها. وقد تجاوز الأمر ذلك إلى ظهور مواقف تعلن قبولها الخطة ووعودها في السلام والأمن والاستقرار والتنمية. أما الأطراف التي رأت في الخطة إرادة سياسية لإنهاء موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والصراع العربي الإسرائيلي، فقد عادت إلى إعلان مواقفها المعروفة من دون زيادة أو نقصان.
تابع العالم أجمع المواقف التي تَلت الخطة، من قَبيل ما أشير إليه أعلاه، كما تابع المظاهرات 
والشعارات التي رُفِعَت في الميادين العربية والغربية وداخل الأرض المحتلة، وقت إعلان الخطة وفي الأيام التي تلت ذلك، حيث جرى التنديد بها وبالذين اقترحوا رؤيتها وبُنودَها، ورسموا أهدافها الكبرى، مع إعلان حرصهم على مواصلة النضال والعمل من أجل مقاومة ما تحمله من بنود، تمنح إسرائيل وضعاً مندمجاً داخل الفضاء الجغرافي العربي، وتُلْغي الحق التاريخي لشعبٍ وتاريخ. الأمر المثير في كل ما جرى ويجري بعد إعلان الخطة، لا يُناسب واقع الصراع القائم في الأراضي المحتلة، وواقع الصراع المرتبط بمآلات القضية في ضوء بنودها.
أتصوَّر أن المواقف التي طَبَّعَت وتُطَبِّع مع ما جرى ومع الخطة ومستلزماتها، والمواقف التي تتغنَّى بالرفض والمقاومة في شعاراتها تنتميان معاً إلى زمن آخر. نحن نفترض أن ما حصل ويحصل اليوم على مرأى ومسمع من العالم أجمع يستدعي من أصحاب القضية، ومن كل الذين ما زالوا يؤمنون بعدالتها، لغة أخرى ومواقف أخرى وأفعالاً أخرى، حيث يتطلَّب ما يجري في واقع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي اليوم عُدَّة جديدة ومواقف تسمح ببناء خياراتٍ لا علاقة لها بما يجري اليوم في الضفة الغربية وقطاع غزة بين الفلسطينيين، وبما جاء في بيان جامعة الدول العربية أخيراً وكذا في مُسَوِّغات المُطَبِّعِين.
تحتاج القضية الفلسطينية، كما يحتاج المشروع الوطني الفلسطيني، اليوم، في ضوء واقع الحال فلسطينياً وعربياً وكذا إقليمياً، إلى تأمل وفعل جديديْن، وكذا ابتكار أفعال جديدة تُمَكِّن من مواجهة صور الوقاحة التي تملأ بنود الخطة المعلَنة، إنها تحتاج إلى أفعال مقاومة تتصدّى لأعطاب الذات الفلسطينية أولاً، كما تتصدَّى، في الوقت نفسه، لكل ما أعلنته الخطة، ولكل ما سكتت عنه.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".