روبرت ستيفنسون وفن الكتابة

روبرت ستيفنسون وفن الكتابة

20 فبراير 2020
+ الخط -
الكتابة، تلك المهنة العابرة، والمحيّرة أيضا، والتي على فضلها تُضاء المسارح بالقصص والجنون، وعلى فضلها أيضا تعمل كاميرات السينما، وتهتزّ الأرواح طربا على ألحان الأغاني، وتنطلق المزامير وراء الكلمات، للوصول إلى لوعة كاتبها ومُراده. 
إنها الكلمات حينما ترتبك في صدر صاحبها محاولة اللحاق بقنيصتها من فرح أو حزن أو وصف أو سبر أغوار ذاكرة، كي تصير فيما بعد أسلوبا وكتابة ورواية وشعرا وسردا. الكلمات وكيفية نحتها في أسلوبٍ يليق بما تحت ضلوع صاحبها قبل البحث عن الشهرة أو الناشر والمترجم والناقد والصحافي الأجير أو الجائزة أو وكيل الأعمال أو المراجع (المهذّب للجمل أحيانا).
الكتابة قنيصة الشيطان الذي صاحبنا، وكيف دخلت عليها كل هذه الديكورات السابقة، فأتعسوها، حتى وإن زادوها طباعةً ونشرا وفلوسا ووجاهةً وقربا من خيم السلطات والدكتاتوريات. يتحدّث روبرت لويس ستيفنسون عن الكتابة في براءة تكوينها الأول، يتحدّث عن ذلك اللاعب الذي يتلاعب ببرتقالتين أو أكثر، محافظا على إيقاع نثره من غير بضاعةٍ مُزجاةٍ بكتابات الآخرين وخيلهم وركبهم وبللهم الليلي المتبقي في تجويف الأذن والقراءة.
يبحث روبرت عن كتابةٍ بريئةٍ لا تمثل إلا ضلوع صاحبها وإيقاع روحه، سواء أكان في سهل أم جبل أم مدينة غاصّة بالملايين كنيويورك مثلا، أم قرية هادئة لا تسمع فيها إلا صدى أصوات (طواحين) بعيدة، وقمر مجروح من الأسى في السماء، وفي كبد صاحب الكتابة. كتابة قد تكون في غابةٍ لا يذهب إليها إلا "المقاطيع" ورهبان نذروا أنفسهم للوحشة والوحدة والكتابة، وتجنب العالم، كما فعل الكاتب الأميركي جيروم ديفيد سالينجر، صاحب رواية "الحارس في حقل الشوفان"، أو بول بولز في "شاي في الصحراء".
الكتابة تلك الشاهدة على العدل، عدل الروح، حتى وإن غابت كل الموازين. الكتابة هي التي تجعلنا نقول مع روبرت ستيفنسون: "ألا ليتنا هجرنا معابدنا المطمئنة، بدلا من أن تمتلئ بالزائفين والمشعوذين". الكتابة، أو لهجة الحياة كما يسميها روبرت، هي تلك التي أخذت من اللحظات جوهر انطلاقها، على القول، وفقا لأسلوب وطريقة وإيقاع، سواء أكان الكاتب حاديا في الصحراء مع شعره ودوابّه وإبله، أم كان السارد في عزلته في غابة، بعدما أمات طموحه الأدبي (كحالة سالينجر)، أو في عزلته في صخب مقهى في مدينةٍ مزدحمةٍ بالألوان والأجناس والأضواء والرغبات التي ليس لها أي حد في مدينة كنيويورك، وحياة تعاش طولا وعرضا كما في حالة هنري ميلر في ثلاثيته أو "مدار السرطان" و"الجدي"، أو غريبا في صحراء مغربية شاسعة مع "الكيف"، كما في حالة بول بولز، فنجد دائما أن "لهجة الحياة"، بتعبير روبرت ستيفنسون، هي سر أسرار الكتابة مهما اختلفت الصيغ والأساليب.
في الكتابة، نحن نربّي أنفسنا بها ومن خلالها، قبل أن نلقي بها وبأوراقها في حجر الناشر ورغباته السوقية، وما يطلبه القارئ أو الموضة السائدة: (سحر أو خيال علمي أو جنس أو إثنيات أو بداوة أو أقليات مضطهدة أو ختان إناث أو تمثيل بجثث أو تصوف ناحية الشرق). الكتابة هي التي تربي الجائزة، وليست هي التي تنحني للجائزة ولجنتها، أو الموجة السياسية كما تشير الرياح، وكما يحب الضباع أو حيثما تكون الوليمة.
الكتابة هي جمالنا الكامن فينا، والذي يشرف بعدم معرفته لوائم الضباع، ضباع العالم والسوق. الكتابة هي حتى تعاستنا التي لا نملك إلا أن نتباهى بها وفيها، وهذا هو درس روبرت ستيفنسون في كتابه الصغير "فن الكتّالة". وأتيقن أن بورخيس لم يكن مبالغا حينما قال: "أحب الساعات الرملية والخرائط وفن الطباعة في القرن الثامن عشر وعلم أصول الكلمات ومذاق القهوة ونثر ستيفنسون".

دلالات

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري