"ثقافة السلام" في خطة ترامب

"ثقافة السلام" في خطة ترامب

18 فبراير 2020
+ الخط -
تتألف خطّة الرئيس الأميركي ترامب "سلام من أجل الازدهار.. رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي"، المنعوتة باسم "صفقة القرن"، من جزءين، أولّهما 22 قسماً وأربعة ملاحق، فيما الثاني ثلاثة أقسام وملحق اقتصادي. لم يكتف الصهاينة من فريقي رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، ومستشار الرئيس الأميركي وصهره، كوشنير، بما ضمّنوه في الخطّة من إجراءات استحواذ على الأراضي الفلسطينية، ومن ترتيباتٍ تنزع عن الفلسطينيين كل حقوقهم، بل شرّقوا وغرّبوا أيضاً في غير شأن وشأن. ومن ذلك أن القسم الثامن عشر من الجزء الأول من الخطّة هذه تعلق بثقافة السلام، وجاء موجزاً جداً، وعلى شيءٍ من التعجّل، غير أن المحمولات والمضامين التي اشتمل عليها بالغة الأهمية والحساسية، وإنْ ليست جديدةً تماماً، فقد جيءَ على مثلها في مداولاتٍ فلسطينيةٍ إسرائيليةٍ في أثناء مفاوضاتٍ وتفاهماتٍ واتفاقيات مرتجلة، بُعَيد توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل (أوسلو) في 1993، إلا أنه، والحق يقال، قليلٌ من الكلام الفارغ فيها تم الأخذ به.
يُخبرنا ترامب (هل هو ترامب حقاً؟)، هنا، أن من المهم جداً أن يركّز التعليم على السلام، لضمان التزام الأجيال به. وبحسبِه، سيكون ترويج ثقافة السلام عنصراً مهماً في اتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، بهدف تهيئة بيئةٍ تضمّ قيم التعايش والاحترام المتبادل في جميع أنحاء المنطقة. ويحتاج قارئ هذا الكلام (وما يليه) إلى أعصابٍ خاصّة، باردة، حتى يحتمل هذه اللغة الرسولية التي لا تدري أنت إلى من يتوجّه بها الرئيس الأميركي (وصهره). ويحسُن عدم تلقّي هذا الكلام بحسبانه إنشائياً لا يُؤخذ على محمل الجدّ، فما يتلوه يُجلي أغراضه، عندما يقول، بلغةٍ آمرةٍ إلى حد ما، إن إنشاء ثقافة السلام يجب أن يشمل وضع حدٍّ للتحريض، بما في ذلك في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة، وكذلك وضع حدٍّ لتمجيد العنف والإرهاب والشهادة. ولا يحتاج واحدُنا إلى حصافةٍ باهظةٍ، حتى يوقن أن المخاطب المستهدف في هذا "الأمر" هو الجانب الفلسطيني، فيُطالب بالكفّ عن تمجيد "العنف والإرهاب والشهادة".
كثيرةٌ الدراسات التي كشفت أن مضامين مناهج التعليم الإسرائيلية، في مختلف مراحل تدريس التلاميذ، تتبنّى التحريض على الفلسطيني، وترميه بالتحقير والاستصغار، ولا يكتفي كثير منها بهذا، ففي المستوطنات ومدارسها يتلقى التلميذ الإسرائيلي تعليماً حربياً يعزّز ثقافة قتل الفلسطيني، الهمجي والإرهابي دائماً. وهذه دراسةٌ جديدةٌ، أنجزها أخيراً مركز مدى الكرمل في حيفا، توضح أن أهداف التعليم الرئيسية في الأكاديميا الإسرائيلية مرسّخة بعمقٍ في العسكرية القومية اليهودية، وأن العلاقات التي تحكُم الإنتاج المعرفي في الجامعات الإسرائيلية تكرّس علاقات القوة بين المستعمِر والمستعمَر. ومعلومٌ أن عيون ناس ثقافة السلام إياها، الأميركيين ومشايعيهم في غير موضع عربي، حوْلاء، عندما تتقصّد اعتبار مضامين مناهج تدريس فلسطينية وعربية تأتي على ثقافة المقاومة والجهاد، وردّ المعتدي، والقتال من أجل استرداد حق وأرض، وردع احتلال، دعواتٍ إلى العنف، وإلى نبذ السلام. ويتعامى هؤلاء عن أرطالٍ مهولةٍ، في مضامين مناهج التعليم الإسرائيلية، من ثقافة التوحش والاستقواء وتأويل نصوص الدين اليهودي وتوظيفها، وغير ذلك مما لا يريد من كتبوا خطّة ترامب للسلام (من أجل الازدهار!) أن يعرفوا شيئاً منه.
ولمّا قال نتنياهو، أخيراً، إن تنفيذ "صفقة القرن" سيتم، وافق عليها الفلسطينيون أو رفضوها، فإنه على الأرجح قَصَدَ إجراءات الضم والتهويد وسرقة الأراضي، والاستيلاء على القدس، وكثيرا مثلها، وغيرَها مما جرى واقعياً منذ شهور، إلا أن ما اشتمل عليه القسم الخاص بالتربية وثقافة السلام، عن لجنةٍ مشتركةٍ سيتم إنشاؤها لقبول الآخر والتسامح (!)، يصبح موضع سؤالٍ مربك، كيف يستقيم تشكيل هذه اللجنة، فيما الطرف الآخر يرفض الخطّة كلها، إلا إذا كان المقصود لجنةً مشتركةً إسرائيلية أميركية، فذلك سيتسق تماماً مع كل منطوق الخطّة المرذولة. وللتسلية فقط، حسنٌ أن يُعرَف أن اللجنة هذه إنما للتركيز على الخطوات التي يمكن اتّخاذها لمساعدة الناس من كلا البلدين (!) على التئام الجروح الناجمة من الصراع، وتقريب الناس من خلال الحوار...
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.