الأدبُ والتنظيرُ في الأدب

الأدبُ والتنظيرُ في الأدب

18 فبراير 2020

(إسماعيل الشيخلي)

+ الخط -
أينبغي للروائيّ أن يكون منظّرا في الأدب؟ سؤالٌ يُطرح، وهو إن لم يكن مطروحًا على آخرين، فقد طرحتُه على نفسي، حين دُعيتُ أخيرا للمشاركة في أحد اللقاءات الأدبية العربية، فوافقتُ متسرّعةً، إعجابا بالموضوع المطروح، واحتراما للجهة الداعية. لكنّني، للأسف، سرعان ما تراجعتُ عن قبول الدعوة، حين فطنتُ إلى طول المداخلة التي يُفرض عليّ المشاركة بها، وضرورة أن تسبقني إلى الحضور، على أن يتراوح عددُ كلماتها ما بين 3500 إلى 4000 كلمة، ذلك أنها سوف تُنشر لاحقاً في كتابٍ.
هكذا وجدتُني، وقبيل تراجعي واتّخاذ قراري عدم المشاركة، مبرّرةً الأمر بكثرة المشاغل وضيق الوقت، أطرحُ على نفسي السؤال: لمَ ينبغي لروائيّ، وقد اختار التعبيرَ عن أفكاره وثقافته وتناقضاته ونزاعاته الداخلية، من خلال كتابة الرواية، أن يخوض غمار الكتابة النظرية فيكتب ما بين 14 و16 صفحة تحت عنوانٍ عالجه في أعماله، وبرع في قوله بين صفحات رواياته التي عمل عليها سنوات طوال؟ قد يقول قائلٌ إن كُتّابًا كثرًا يهوون الحديث عن تجربتهم الذاتية، وإن أُدرجت تحت مسمّى عام من نوع "الـ.... في الأدب العربي" أو "الـ... في الرواية العربية". لكن، والحال هذه، أيحتاجون فعلا إلى كل هذا الإفراط والإسهاب والإطالة والإمعان تعذيبا في آذان الحضور؟
شاركتُ في ندوات ولقاءات ومؤتمرات ومعارض في الغرب، سواء ارتبط ذلك بصدور ترجمة لإحدى رواياتي أم لا، وشاركتُ في طاولاتٍ مستديرة وسواها، وجلّ ما كان يُطلب منّي، ويستهوي الجمهورَ، قراءتي مقاطع من أعمالي، والردّ على أسئلة المحاوِر الذي يطرح عليّ أسئلةً تتعلق بكل ما يرتبط بها. ومفاده أني كنتُ أدعى بوصفي روائية، لكي أدلي بدلوي باعتباري كاتبة رواية، لا ناقدة أو عالمة اجتماعية أو محلّلة سياسية. إن نموذج الكاتب - الناقد، أو الكاتب - الباحث والمنظّر، محبّب ومحترم من كثيرين، وهو موجود في تاريخي الأدبين، العالمي والعربي. وإذ يشار إليه، فلأنه الاستثناء وليس القاعدة، بل إن كثرا يرون في ممارسة الكاتب نفسه النوعين تعدّيا ما. ومع ذلك، فإن ما يُبقي الروائي حيّا، قبل كل شيء في وجدان قرّائه، هو كتبه حتما، لا آراؤه.
وبغضّ النظر عن أن الروائي يمتلك رأيًا أم لا، نظرية أو لا، ثقافة نقدية أو لا، فإن هذا التقليد بات دارجا في ثقافاتنا التي تعقد ندوات ولقاءات ومؤتمرات تحت عناوين كبيرة فضفاضة، تنتهي في أغلبيتها فقاقيعَ صابون، إذ يُطلب من أيّ كان الحديث في أيّ شيء. والسؤال: أوَيحدث ذلك لسوءٍ في المقاربة والتنظيم، أم لنقصٍ في إيجاد ذوي اختصاص، أم للَبسٍ في توزيع الأدوار، أم لسوء فهم لوظيفة الكاتب والأديب، ومن ورائها مهام الناقد والباحث النظري؟ وماذا عن السبب الذي يجعل ثقافتنا قلّما تدعو روائياً أو أديباً للاحتفاء بأدبه، والإصغاء إليه، والغوص في عمله ومناقشته ومحاورته لتعريف الجمهور به؟ هذا ما نفعله عندما ندعو كاتباً أجنبياً، إنما تقريباً أبدًا عندما يتعلّق الأمر بأديبٍ عربيٍّ مدعوٍّ للحديث في كل الموضوعات، إلا في أدبه، فالأديب العربي المسكين عليه أن يثبت موقفا في السياسة، أن يبدي رأيا في الأحداث، أن يلغو في الميتافيزيقا، في الاحتباس الحراري، في القضايا كافة قبل الحديث عن أدبه، فهل مردّ ذلك شعورٌ بالنقص كبير، وانعدام ثقة بالذات، تعاني منهما الثقافةُ العربية، إلى جانب ما تعانيه من فوضى ولَبْسٍ وتراجعٍ وخلط؟
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"