هل مصر غير مستعدّة للديمقراطية؟

هل مصر غير مستعدّة للديمقراطية؟

17 فبراير 2020
+ الخط -
تردّدت تلك المقولة كثيرا، وما زالت تتردّد، في أروقة السلطة المصرية، أن المجتمع المصري غير مهيأ للديمقراطية، ويحتاج سنوات حتى يكون مستعداً (وإن كان الآن تم استبدالها بمقولة إن الديمقراطية ستؤدي إلى مصير سورية أو العراق). والحقيقة أن الطغاة في ذلك كله جلبوا الغزاة. مصر/ الشعب غير مستعد للديمقراطية. قالها نائب الرئيس المصري، عمر سليمان، في أثناء ثورة يناير في العام 2011، ولكن مع البحث في التاريخ المصري الحديث تبيّن أن المقولة دارجة منذ عقود داخل الجهاز الإداري للدولة المصرية، فبعد إقرار دستور 1923 أصبح سعد زغلول باشا رئيساً لوزراء مصر بعد انتخابات برلمانية، فاز بأغلبيتها حزب الوفد، ثم سرعان ما تم الانقلاب على تلك الحكومة المنتخبة بعد عشرة أشهر من انتخابها، وكان السبب المعلن وقتها أن تلك الوزارة عاجزة عن حكم الشعب وحفظ الأمن والأمان، حيث تم حينها اغتيال سردار الجيش المصري ذي الأصول الإنجليزية. حينها خرج الملك فؤاد، وأصرّ على أن مصر غير مستعدّة لحكومة دستورية منتخبة ديمقراطياً، وأن هذا الأمر يتطلب سنوات حتى يتم تنفيذه.
وفي كل مرة، كان يتم فيها الركون إلى الديمقراطية، أو إقرار دستور 1923 الذي يعتبر من أفضل الدساتير التي مرّت على مصر، والذي يحمل، في نصوصه، جوهر الديمقراطية ومبادئها، كانت السلطة تتدخل لتعطيل تلك الديمقراطية، ووصم الشعب بأنه غير مستعد للديمقراطية، وأنه طفلٌ لم يبلغ سن الرشد. استمر الأمر مع الملك فاروق، واتسم في فترته بنوعٍ من المراوغات السياسية بين القصر والأحزاب السياسية حتى تم بلوغ عام 1952 وإعلان الانقلاب العسكري على الملك، وحل الأحزاب السياسية وتعطيل الديمقراطية. وكان 
الضباط الأحرار حينها بكل وضوح معادين للديمقراطية، ففي 1954 في أعقاب أزمة مارس بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وصلت الأزمة إلى ذروتها عندما استأجر عبد الناصر، رئيس اتحاد عمال النقل، صاوي أحمد صاوي، ودفعه إلى عمل إضراب يشلّ الحياة وحركة المواصلات، وشاركتهم فيها نقابات عمالية كثيرة، وخرج المتظاهرون يهتفون "تسقط الديمقراطية.. تسقط الحرية"، وقد اعترف الصاوي بأنه حصل على أربعة آلاف جنيه مقابل تدبير هذه المظاهرات.
يتضح، في كل ما سبق، أن الشعب المصري كان دائما مستعدا للديمقراطية، وانحاز إليها في اختياراته، لكن سلطته كانت دائما ما تنقلب عليه، وتصمه بأنه لم يبلغ الرشد بعد، وغير مستعد لهذه الاختيارات. ولعل الانقلاب الذي تم على ثورة يناير، حينما أطاحت المؤسسة العسكرية حسني مبارك، وتولي السلطة فترة انتقالية اقتربت من العام، حتى تستطيع أن تعيد تهيئة الأمور لها، لهو تأكيد على رفض السعي نحو الديمقراطية، ثم كان الانقلاب في 3 يوليو/ تموز 2013 على الرئيس محمد مرسي رحمه الله، والذي جاء إلى السلطة بانتخابات ديمقراطية. في كل مرة، كان الشعب يعلن انحيازه واستعداده للديمقراطية، كان الجهاز الإداري للدولة يعلن أنه غير مستعد لها. إذاً الأزمة الحقيقية ليست في الشعب واختياراته وتطلعاته، بل في هذا الجهاز الذي يعادي الديمقراطية منذ نشأته، فبحلول عام 
2020 أكمل مائتي عام، منذ أنشأه محمد علي في عام 1820.
ورجوعاً إلى الانقلابين اللذين قادتهما المؤسسة العسكرية بين 2011 و2013، أي منذ لحظة إطاحة مبارك حتى إطاحة مرسي، تم أيضا إسقاط قانون الطوارئ، ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث، وفي تاريخ جهازها الإداري الذي يُتم قرنين، الحكم عامين ونصف العام متتالين بدون قانون الطوارئ، أي بدون ما كانت تُعرف بالأحكام العرفية. فشل الجهاز الإداري، وفي مقدمته المؤسسة العسكرية، في أن تتوافق مع الوضع الديمقراطي الذي يهدّد مصالحها وهيمنتها على الحكم. وبالطبع، لم تستطع الشرطة كذلك أن تتعامل مع الوضع الجديد، وأن تسير وفق القانون ووقف الانتهاكات بحق المواطنين.
ويكشف عدم قدرة الجهاز الإداري للدولة المصرية على التكيف مع أي وضع ديمقراطي عن الأزمة الداخلية لهذا الجهاز الذي تشكلت عقليته وهويته على مدى 190 عاما على أساس من قانون الطوارئ (الأحكام العرفية)، فبنظرة سريعة على هذا القانون تجد أنه، حتى في ظل أفضل دستور عرفته مصر، وهو دستور 23، تم تطبيق حالة الطوارئ (أو الأحكام العرفية)، لكن من 1939 عندما اشتعلت الحرب العالمية الثانية، أصبح هذا القانون مستمرا من دون انقطاع إلا فترات قليلة. خد مثالا: هذا القانون (الطوارئ) تم تعطيله في مدد قصيرة جدا من 
تاريخ الدولة، من سنة 1945 حتى 1948، من 1950 حتى 1952، من 1964 حتى 1967، من 1980 حتى 1981، ثم من 2011 حتى شهور من 2012. ومعنى هذا أن مجموع السنوات التي تم تعطيل فيها قانون الطوارئ متصلة لا تتعدي الثلاث سنوات، وبصورة متقطعة، يقترب إلى عشر سنوات. وهذا في مجمله يعني أننا إزاء دولةٍ لديها جهاز إداري عمره مائتا عام لم يذق معنى الحرية أو الديمقراطية طوال عمره هذا إلا عشر سنوات متقطعة. إذاً نحن أمام جهاز تشكّل وعيه وهويته على أساسٍ من القمع، في الوقت الذي مر المجتمع فيه بمراحل مهمة، انحاز فيها للديمقراطية منذ اندلاع ثورة 1919 حتى ثورة 25 يناير 2011. ولكن في كل مرة كان الجهاز الإداري من خلال أدواته القمعية ينقضّ على اختيارات الشعب الديمقراطية وانحيازاته.
الأزمة الحقيقية أن هناك شعبا مهيأ ومستعدا للديمقراطية، ومتطلعا إليها، لكن الجهاز الإداري للدولة غير مهيأ لها، أو بمعنى آخر، شعب يسبق دولته.
BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.