صفقة القرن .. واختراقات عربية

صفقة القرن .. واختراقات عربية

17 فبراير 2020
+ الخط -
بعد أن كشف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن تفاصيل ما سميت صفقة القرن، لم تحتمل أيُّ دولةٍ لديها أدنى احترام لذاتها، وللأسس الإنسانية والحقوقية الأولى، أن تعلن قبولها بها، فلم تحتمل ذلك، بالطبع، جامعة الدول العربية، إذ قالت: "إن الخطة لن تؤدِّي إلى اتفاق سلام عادل". وقال أمينها العام، أحمد أبو الغيط، إن "الفلسطينيين يرفضون الوضع الحالي؛ لأنه لا يُلبِّي تطلُّعاتهم، ويضعهم فعليًّا تحت احتلال. وسيكون من قبيل العبث أن تُفضي خطة للسلام إلى تكريس هذا الاحتلال وشرعنته".
ولم يسَعْ منظمة التعاون الإسلامي احتمالَها، فرفضتها في اجتماعها الاستثنائي، وقالت "إنها متحيّزة، وتتبنّى الرواية الإسرائيلية للنزاع، وتفتقر إلى أبسط عناصر العدالة"، كما أكدت على أعضائها عدم التعامل مع الصفقة، أو التعاون مع الإدارة الأميركية لتنفيذها. كما رفضها الاتحاد الأوروبي، على لسان خوسيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، سيما الأجزاء التي تشمل احتفاظ إسرائيل بمستوطناتها في الضفة الغربية المحتلة، قائلا: "إن مقترحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تخالف المعايير المتفق عليها دوليا". كما رفضتها روسيا، وأعلن الناطق باسم الرئاسة الروسية (الكرملين)، دميتري بيسكوف، أن بعض بنود صفقة القرن لا تتوافق مع قرارات مجلس الأمن الدولي.
ورفض الاتحاد الأفريقي الصفقة الأميركية، أيضا، وحذّر في قمّته، من أنها "ستفاقم من الأوضاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين". واعتبر الخطة الأميركية "انتهاكًا لكل قرارات الأمم المتحدة، وقرارات الاتحاد الأفريقي، ولن تسهم إلا في زيادة التوتر". ولم تقبل بها الصين، 
وأعلنت أن قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وحل الدولتين، ومبدأ الأرض مقابل السلام، وغيرها من الإجماع الدولي، "تشكل الأساس لحل القضية الفلسطينية". وكشفت السلطة الفلسطينية، على لسان نبيل شعث، مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الخارجية والعلاقات الدولية، عن مبادرة صينيّة، قالت إنها "يمكن أن تفتح الطريق أمام حلٍّ دولي متعدّد الأطراف للقضيّة الفلسطينية"، وتكون بديلة عن "صفقة القرن".
ومع كلِّ هذا الرفض الدولي والإسلامي والعربي، إلا أننا لا نجد التزامًا من دول عربية بأدنى التوقُّعات، وكان جديد تلك الاختراقات الخطيرة ما جاء من السودان، البلد الذي أطاحت ثورةُ شعبه الرئيس عمر البشير؛ ليؤشِّر ذلك إلى عافية مستردَّة، وحسٍّ شعبي يعبِّر عن نفسه، وإرادته، في القضايا الداخلية، وفي الشؤون العربية، وفي صلبها القضية الفلسطينية، كان ذلك الاختراق الذي صدم الشعب السوداني، وتبرّأت منه الحكومة السودانية، في لقاء رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، برئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، في 
أوغندا. وقد كشف مسؤول عسكري سوداني رفيع المستوى، لوكالة "أسوشييتد برس"، أنّ ذلك اللقاء رتّبته دولةُ الإمارات. ولم يكن هذا الدور الإماراتي مستغربًا، بعد أن شارك سفيرُها في حفل إعلان الصفقة في واشنطن، هو والسفيران البحريني والعُماني.
وليس خافيًا على أحد أن هذه الصفقة لا تعتمد سوى الإملاء، والإخضاع، بالقوة السافرة، وأنها تنحاز كامل الانحياز، ليس إلى دولة الاحتلال، بصفة عامة، بل إلى رؤية حزب الليكود، وزعيمه نتنياهو، وتطمح إلى تلبية تطلُّعات المستوطنين العدوانية، والدينية المتطرِّفة. وما الحديث عن دولةٍ فلسطينيةٍ سوى وهم جديد في انتظار الإطباق على ما تبقّى من فلسطين، فهذه (الدولة) منزوعة المعنى، ومنزوعة السيادة، ومشروطة بشروطٍ تعجيزية، من قبيل إثبات حسن السلوك، وفق الاشتراطات الإسرائيلية، بل الليكودية، وهو غير المؤمن، أصلًا، بدولةٍ غربيِّ نهر الأردن. وقد سبق لنتنياهو، تحت ضغط أميركي في عهد الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أن تعهَّد بقبوله بدولة فلسطينية، منزوعة السلاح، ثم تراجع، وتنصّل من ذلك، إذ أعلن نتنياهو، بصريح الكلام، في سنة 2015، أنّ الخطاب الذي ألقاه في جامعة "بار إيلان"، عام 2009، لم يعد ذا صلة.
لا تستند إدارة ترامب إلى مرجعية قانونية، ولا تدّعي ذلك، وإنما تؤسِّس هذه الانعطافة الخطيرة والمتهوِّرة على سلطة الأمر الواقع، فقط، أيْ على قدرة الاحتلال على الاحتفاظ باحتلاله للضفة الغربية والقدس، فضلًا عن تحكُّمه في أجواء قطاع غزة ومحاصرته، هذا الاحتفاظ (وزيادةً التوسُّع الاستيطاني والتهويدي) الذي دعمته فيه الولايات المتحدة، كما أنها تستند إلى كون 
المحاولات التفاوضية التي سبقت، مُنِيت بالفشل، وتاليًا، لم تعد صالحة، وتتناسى الإدارة الراهنة أن حماية أميركا لدولة الاحتلال، وتغطيتها دوليًّا، هو الذي مكَّنها، وشجَّعها على الاستمرار في رفض الخضوع، بل رفض مجرّد التعاطي مع القرارات الدولية ذات الصلة.
ولكي تنجح الجهود الهادفة إلى حلِّ هذا النزاع التاريخي المستعصي، والذي قارب القرن، رأت إدارةُ ترامب أن تلبِّي مطالب الطرف الذي ظلّ يرفض التجاوب مع المقترحات الدولية، بل والأميركية، وهي إسرائيل. وعلى الرغم من ادّعاء أحزاب صهيونية دينية، واستيطانية، رفضَها للصفقة؛ بذريعة أنها تسمح بدولة فلسطينية، إلا أنهم يعلمون، في قرارة أنفسهم، أنها حققت لهم، أميركيًّا، أكثر مما حلموا به؛ فهي تفضي إلى ابتلاع الضفة الغربية، تمامًا، وتجزِّئ مناطق الضفة، وتجعلها تحت سلطة الأمن الاحتلالي. وهذه الصفقة تقوم، في المجمل، على مسارين: فعَّال (وغير مشروط)، يشرعن المستوطنات، ويضمّ الأغوار، ويجعل القدس عاصمة موحَّدة لدولة الاحتلال. ومعطَّل، منتظِر، ومشروط، بالاعتراف بيهودية "إسرائيل"، ونزع السلاح في غزة، هو "الدولة الفلسطينية". وأما حقُّ العودة للاجئين الفلسطينيين فليس محلّ بحث.
ومن هنا، وبعد أن اتضح حجم الرفض الدولي والعربي والإسلامي لهذه الخطة، وبعد أن ظهر للجميع مقادير ما فيها من إجحاف واستهتار بالحقوق الفلسطينية والعربية، يمكن الوقوع على خطورة المواقف العربية التي تسارِع إلى الاستجابة لابتزازات رخيصة، لا تعود بالفائدة إلا على نظمٍ تشكُّ، وتشكو من شرعيِّتها، أمام شعوبها، أو أنها تحسّ بالغربة عن محيطها، إلى درجة الانسلاخ، وتعليق مصيرها بالكامل، على أحزابٍ صهيونيةٍ عنصرية، وعلى إدارة الرئيس ترامب، وهو الذي لا يمثِّل القاعدة العريضة الراسخة من الأوساط السياسية. وثمّة في الكونغرس، ومن النُّخَب الثقافية والسياسية، من يحذِّر من خطورة هذا المنحى الذي نحَاه ترامب في هذه الصفقة التي ترشح منها المآرب الانتخابية الضيقة.