سليم بركات "يوجّه" جائزة بوكر

سليم بركات "يوجّه" جائزة بوكر

17 فبراير 2020
+ الخط -
ما إن أُعلن عن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، حتى توجّهت الأنظار نحو الروائي السوري سليم بركات. جعل هذا "الحدث" أنظار المهتمّين تتجه نحوه، ويتوقفون مليا للتفكر والتدبّر. وقد حدث هذا في مرّة سابقة، بعدما أُعلِن عن رواية له ضمن القائمة الطويلة. من بين كل الأسماء، كان اسم بركات ما شدّ الأنظار وأثار التساؤلات، دونا عن غيره، بفضل تراثه الشّعري والروائي الزاخر، وأيضا بفضل طبيعة ما يكتب هذا العاشق حد التصوف للغة العربية.
ولعله ليس من محض المصادفة أن يرتبط اسم سليم بركات بشاعر كبير، هو محمود درويش، وبمجلة الكرمل الرائدة. وقبل ذلك ارتبط اسمه بالقضية الفلسطينية، ولازمها طويلا. له معجم خاصّ ثريّ وموزع، ينثره عبر رواياته ودواوينه الشعرية وسيَره الذاتية، معجم مدهش. وكما في أشعاره، كان سليم بركات في نثره الروائي أصيلا في التعبير عما يعرف ويتخيل من تفاصيل ينتمي معظمها إلى فضاءات طفولته وحياته في بلاده، سورية، بشخوصها وعوالمها وأحداثها ومحطاتها.
بعد إعلان القائمة القصيرة لروايات جائزة بوكر، كتب مدوّن أنّ "بوكر" خسرت الكثير، حين استبعدت سليم بركات من القائمة القصيرة، وذهب آخر إلى حدّ المطالبة بـ"محاكمة" لجنة التحكيم للجائزة. وإذا كان بعضهم قد حاول التهوين من وقع هذا الغياب، كما فعل أحدهم، وهو يكتب أن "المشكلة في النصوص وليس في اللجان التي تختار من المعروض"، فقد هاجم آخرون أعضاء لجنة التحكيم، وقالوا إن بعضهم "لا علاقة لهم بالرواية ولا بالنقد الأدبي". وطالب آخر بـ"نشر محاضر جلسات التحكيم، لو كانت هناك تقارير تُنجَز أصلا". بل ذهب أحد المهتمّين إلى حد المطالبة بـ"فتح تحقيق دوليّ حول إقصاء سليم بركات من اللائحة القصيرة" (!)،.. ذاهبا إلى أن الجائزة "لا مصداقية لها".
لم يُعرف عن سليم بركات شغفُه بالجوائز كثيرا، على الرغم من استحقاقه كل تكريم؛ فقد اعتذر، على سبيل المثال، عن استلام جائزة الأركانة للشعر في المغرب، إذ لم يذهب إلى الرباط لاستلامها، فحُجبت عنه، ثم كتب مندهشا: كيف تُربط جائزة بضرورة حضور صاحبها؟!
ولعلّ مردّ اندهاش القرّاء من خروج رواية لسليم بركات من المنافسة على جائزة بوكر أنّ مشروعه في الكتابة الروائية هو في الأساس ضدّ الاستسهال اللغوي السائد في كتابتها، فقد جاء هذا المشروع في جوهره مضادّا للأسلوب الإنشائي التقريري الذي تُكتب وفقه روايات عربية كثيرة حاليا، إذ يعتمد بركات على لغة تنتمي إلى "لغة الخاصة"، كما سماها الجاحظ، في مقابل "لغة العوام"، لغة مصاغة بتروّ وتأنّ، وملفعة برداء من "البلاغة الملوكية" كما أطلق عليها عبد القاهر الجرجاني.
ليس المقام هنا الطعن في قرارات لجنة تحكيم جائزة بوكر في دورتها الحالية، والتي أعلنت في مراكش أخيرا القائمة القصيرة، فربما ليست رواية سليم بركات المشاركة هي الأقوى ضمن نتاجه الغزير والثري، كما أن "البوكر" ليست مقياسا نهائيا، فهي ضمن المقاييس الذوقية وليس النقدية بالضرورة، بالنظر إلى أن بعض مُحكّميها هم من مجالات خارج الاشتغال النقدي، إذ هم نقاد وكتاب أدب وإعلاميون ومترجمون. ولكن الملفت (وربما الجميل) أنّ مَن يُلفت الأنظار ويوجّهها ليس الفائز أو الصاعد إلى القائمة القصيرة، كما يحدث عادة، وإنما كاتب "أُقصي" من هذه القائمة. مردّ ذلك الاحترام الذي أبداه القراء تجاه تجربة سليم بركات، وتشوّقهم المستمر للاطلاع على جديده، وهم في ذلك كله يتشوقون لمعانقة معجمه المتجدّد والأحفوريّ، والذي كأنما يمتح من منجمٍ لا ينضب معينه، ولا تنفد ثرواته. كاتب يشتغل على الكلمة قبل الجملة وعلى العبارة قبل الفقرة. وهو بذلك يترك لنا "دروسا" عديدة في الكتابة والقراءة، ودرساً أهمَّ يحفّزنا على السعي إلى معرفة مدى ثراء لغتنا العربية. إنه يذكّرنا بأن العربية منجم أو بحر متجدّد من المخلوقات والكائنات، ومعجم يصعب حصر اشتقاقاته وجمالياته. هذه اللغة النبيلة التي يستحيل التنبؤ بمدى قدراتها التوليدية الهائلة. يضعنا ذلك كله أمام كاتب استثنائيّ عرف كيف يتحد مع هذه اللغة، وينصهر في حقولها، ليستخرج لنا منها كل مرة ما أينع من الثمار، وصَفا من العسل وحلا ولذّ. .. وكلّ جائزة وأنتم بخير.

دلالات

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي