الزمالك في قطر والسيسي في مرتضى

الزمالك في قطر والسيسي في مرتضى

17 فبراير 2020

لاعبو "الزمالك" يحتفلون بكأس السوبر الإفريقية في الدوحة (14/2/2020/الأناضول)

+ الخط -
ينظر إليً بعين نصفها دهشة، ونصفها الآخر عتاب: ما الذي جاء بك إلى هنا، وسط حشود رابطة مشجعي الزمالك الذين يشعلون العشب بالهتاف من مكانهم الثابت خلف مرمى الفريق الأبيض؟
قرأت السؤال في عينيه، وأنا أبحث عن المقعد المخصص لي، بحسب تذكرة الدرجة الثالثة من فئة العشرين ريالًا في ملعب المباراة بالدوحة، غير أني اكتشفت أن البحث عن المقاعد بالأرقام المسجلة على التذاكر في مثل هذا الطقس الكروي المجنون هو أيضًا ضرب من الجنون، ذلك أن أحدًا لا يجلس في هذه المنطقة، بل الجميع وقوفًا للتشجيع قبل المشاهدة، دعم الفريق قبل الفرجة عليه.
كانت نظرة زميل المدرّج الذي لا أعرف اسمه تحمل ذلك السؤال الفلسفي الضخم، الفارغ من أي مضمون على ضخامته، عن الانشغال بالأشياء الصغيرة عن قضايا الوطن الكبرى، وكأن اللعب نقيض الجد، أو أن مشاهدة مباراة، أو فيلم سينمائي، مثلًا، تعرّض سلامة البلاد للخطر، على الرغم من أن اللعب صار موضوعًا رئيسًا على مائدة فلاسفة اللغة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم الجمال، منذ قرن على الأقل.
صديق عزيز آخر علق على الأمر بأن وجودي في هذا المكان كان بحثًا عن جو مصري تفوح منه رائحة الوطن، وكأنه يدفع عني شبهة الانخراط في توافه الأشياء، غير أن المسألة بالنسبة لي لم تكن أبدًا على هذا النحو، لأن الموضوع، ببساطة، أنني ذهبت لتشجيع ومشاهدة فريق يمثل جزءاً من التكوين الشخصي والوجداني الذي تشكل عبر رحلة الحياة الممتدة لأكثر من نصف القرن، مثله مثل صوت المطرب والمطربة المفضلين، والممثل الذي يمثل كل واحد منا على الشاشة أو المسرح، والقارئ الذي يصعد بنا أعلى مراتب الشفافية بتلاوته، والأديب الذي يكتبنا فنجدنا على صفحاته.
كما أن رائحة الوطن لا تغادرنا، مهما تباعدنا، كما أن الوطن معنا، بل يسبقنا إلى حيث نحط الرحال، أو هو بالنسبة لي كالقدس وفلسطين بالنسبة لإدوارد سعيد "الأرض كلها فندق وبيتي القدس". والأهم أن الانتماء للوطن والتعبير عنه لا يقاس بمسطرة التشجيع والهتاف لأي من الفرق، بمعنى أنك يمكن ألا تشجع وتردّد الأناشيد والأهازيج، وتحشر فيها اسم الوطن، من دون أن تكون فاقد الوطنية والانتماء، بل أنك من الممكن أن تكون أهلويًا يتمنّى هزيمة الزمالك، والعكس، من دون أن يجرّدك أحد من وطنيتك وانتمائك لمصر.
والأهم من كل ما سبق أن مصر ليست عبد الفتاح السيسي، ونادي الزمالك ليس مرتضى منصور، بل أن كليهما بقعة عابرة على ثوب نظيف، سيأتي يوم وتتم إزالتها، كغيرها من بقع مرّت على البلاد وانقشعت.. وبهذا المعنى، نحن أوفياء وسنظل، لمصر وللزمالك، الحقيقيين، ولا ننتظر ممن خطفوهما شهاداتٍ بالوطنية والانتماء، لأننا نثق في أن الأوطان تعرف محبيها والمخلصين لها، وأتمنى ألا يستدرج أحدٌ إلى فخ اعتبار أن الزمالك في قطر كان يمثل السيسي ومرتضى منصور، بل أنني أميل إلى تفسير انفجار لاعبي الزمالك إبداعًا وتألقًا إنما مبعثه أنهم لأول مرة يلعبون بحرّية، بعيدًا عن إرهاب وتسلط واستبداد من يعتبر النادي مدينا بوجوده له، كما أن مصر لم تولد إلا على يد السيسي.

أما أن لاعبي الزمالك ظهروا في لقطاتٍ تنتمي بالكلية إلى أحط مشاهد الاستبداد والطغيان السياسي، بإجبارهم على ارتداء قمصانٍ تحمل صور الجنرال السيسي، فالكل يعلم أن اللاعبين مُجبرون، ومغلوبٌ على أمرهم، ولا يستطيعون العصيان، وإلا فالثمن إنهاء حياتهم الكروية، وربما حياتهم بإطلاق، وبالتالي فهذا المنظر المخجل يمثل دليلًا إضافيًا على مستوى القمع الذي تتردّى فيه مصر، ويمكن تصنيفه نوعًا من الإرهاب الكروي، يثير الشفقة على مصر، لا الغيرة أو الغيظ منها، كما يردد إعلاميو السيسي/ مرتضى.. ويفجر ينابيع من السخرية والضحك الحزين المجروح على هذا التدنّي في معنى الوطنية ومفهوم الوطن، بل أن كثيرين من الأشقاء المحترمين من القطريين والعرب المقيمين في الدوحة تعاملوا مع الأمر باعتباره نوعًا من الكوميديا السوداء التي لم يكن لها أدنى تأثير في حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة.
والحاصل أن الجماهير ذهبت لتشجيع الزمالك، صاحب المكان التاريخي في الوجدان، وأضاءت الملعب بالهواتف المحمولة، في الدقيقة العشرين، هاتفين لأرواح عشرين شهيدًا قتلهم القمع الأمني في ملعب الدفاع الجوي عام 2015 ثم في الدقيقة 74 من أجل شهداء مجزرة ملعب بورسعيد 2012.
هو زمالك الجماهير المصرية والعربية، وليس زمالك السيسي ومرتضى منصور، وهما وجهان لعملة رديئة واحدة. وكما قلت مبكرًا، قبل خمس سنوات، أحدهما مسكونٌ، طوال الوقت، بأنه أعظم رئيس لأكبر نادٍ في العالم، ممتلئ بيقين أنه سيد المدربين، وأمهر اللاعبين، ومن دونه لا يساوي النادي شيئاً.. مثل عبد الفتاح السيسي، يعتقد أن مصر وُلدت على يديه، وأنه العلّامة الفهّامة النابغة، يعرف في انهيارات الكباري، كما يفتي في حلاوة طعم مياه المجاري، حكيم الحكماء، فيلسوف الفلاسفة، طبيب الأطباء، هو المُعلم الأول والصانع الأول والزارع الأول، استلم مصر أشلاء دولة، كما استلم مرتضى منصور الزمالك، أنقاض نادٍ، لذا فالتقويم يبدأ من قدومهما، والتاريخ يفتتح صفحته الأولى.
كان الزمالك جميلًا لأنه لعب بحرّية، بعيدًا عن تسلط طاغية يحكمه بالدجل والشعوذة، وستكون مصر جميلةً عندما تتحرّر من نصف الطاغية الآخر.
وسنظل أوفياء ومحبين لمصر والزمالك، الحقيقيين، من دون أن ننسى أو ننشغل عن الهتاف بالحرية للوطن والمواطنين.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا