البرهان بين مقايضة المنافع ودبلوماسية الابتزاز

البرهان بين مقايضة المنافع ودبلوماسية الابتزاز

16 فبراير 2020
+ الخط -
(1) 
في تقييمهم الخطوة التي أقدم عليها رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، في لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، في عنتيبي بأوغندا، ثمّة جدل محتدم، ليس بين السودانيين وحدهم، وإنما تمدّد إلى خارج البلاد أيضاً. وتعتبر تحولاً غير مسبوق من أي حكومة سودانية منذ استقلال البلاد عام 1956، تحولا جارفا لم تُقدم عليه قيادة سودانية من قبل، وقدم عليه الآن رئيسٌ للبلاد، جاءت به إلى سدة الحكم في الظاهر ترتيباتٌ سياسيةٌ إثر ثورة شعبية، وبعد مفاوضاتٍ مضنيةٍ، تدخلت لتيسيرها أطراف إقليمية، بين مكوني الثورة في السودان، الشعبي المدني، والعسكري المساند لها. هل يمنح هذا الترتيب المؤقت ذلك الرئيس صلاحيات إحداث مثل ذلك التحوّل التاريخي، وبغير تفويض مطلوب من السودانيين، أم هو تصرّف من رئيسٍ جاء به انقلاب عسكري؟ لا هذا ولا ذاك. ولكن توقيت لقاء عنتيبي الذي قصدتْ أطرافه أن يكون سرّياً قد يلقي الضوء على حيثياتٍ وأجندات لن تحجبه عن الأعين تلك السرية.

(2)
لحكومة الثورة السودانية التي ورثتْ خسائر نظام "الإنقاذ" المباد، مطلبٌ واضحٌ يتصل بشطب اسم السودان من قائمة دولٍ تعتمدها الإدارة الأميركية راعية للإرهاب الدولي، وذلك ما سينهي 
الحصار المفروض على السودان من الولايات المتحدة، وأيضا من المجتمع الدولي. احتل السودان موقعه في القائمة المشار إليها بحيثياتٍ تتصل بتصرّفات نظام "الإنقاذ" المباد الذي ورّط السودان في ممارساتٍ أفضتْ إلى تصنيفه دولةً مارقةً ترعى الإرهاب الدولي. عبّر المجتمع الدولي عن ترحيبه بالثورة السودانية في ذلك الاحتفاء الكبير، خلال الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/أيلول الماضي، غير أن الإدارة الأميركية التي ظلت تتزعّم الحصار على السودان كان لها رأي آخر. ثمّة ألسنة تقول كلاماً طيباً، ولكن ينقصها الفعل الإيجابي.
لو نظرنا إلى تطور الوقائع في الأسابيع الماضية، نرى أن قرار لقاء البرهان نتنياهو لم يكن سودانياً محضاً، بل ولا إسرائيلياً صريحاً. لقد رتبت له الإدارة الأميركية بليل مع رئيس مجلس السيادة السوداني، وبنهارٍ مع رئيس وزراء إسرائيل، غير أن الذي يدبّر بليل سرعان ما يجليه النهار.
(3)
في العلاقات الدولية تتقاطع المصالح: تتلاقى أو تفترق، وفق حسابات السياسة ووفق مواقيت محسوبة. للسودان مطلوبات عند الإدارة الأميركية، كما لهذه مطلوبات عند السودان، وبينهما طرف ثالث هو إسرائيل التي تملك من أجندات آنية وحسّاسة ما تملك. ولكنك لو أمعنت النظر هنا ترى أنّ ثمّة مصالح قد تلاقتْ في لعبة السياسة الدولية، بين هذه الأطراف الثلاثة. وتظل لعبة السياسة مرهونةً بمطلوبات، يلعب عنصر الزمن فيها دوراً رئيساً. دعني أستصحبك لترى معي تلك المطلوبات الملحّة التي رأيتها جليةً في الذي حدث في الأسابيع الماضية.
(4)
مطلوبات السودان لإدماجه في المجتمع الدولي من جديد، بعد سنوات حكم الإسلامويين الكالحة، تصطدم بعقبة موقعه، منذ أواسط تسعينيات القرن العشرين، في القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب الدولي. ولكن إزالة اسم السودان من القائمة هو قرار للرئيس الأميركي يد فيه. يتفهّم ترامب، بالطبع، حاجة السودان، ولكن له ذهنية تاجر يقدّر أنّ لكلّ فعلٍ سياسي ثمناً. لا غبار على تبادل المنافع، ولكنه يمارسها بدبلوماسية ابتزاز أكثر مما فيها من مقايضة، يقوم بها الطرف الأقوى مع الطرف المقابل الأضعف، فتكاد تخلو من احترام.
تتحمّل السياسة الدولية مقايضة المنافع بما يشبه سياسة "حكّ لي ظهري أحكّ لكَ ظهرك"، ولكن إخراجها بأسلوب الرئيس الأميركي الفجّ، مثلما فعلها مع رئيس أوكرانيا، جعلها ابتزازاً سياسياً أخرق، سبب له فضيحة كارثية. وكاد الكونغرس أن يعزله من منصبه، لكنه نجا بأعجوبة، لوقوف مجلس الشيوخ بأغلبية حزب الرئيس (الجمهوري)، الذين ساندوا رئيسهم ظالماً أو مظلوماً.
(5)
لإسرائيل، الطرف الثالث، أجندة مثقلة بمطلوبات أمنية وسياسية، على خلفية الصراع مع العرب، ولكن بعضها يختصّ أيضاً بمطلوباتٍ تخصّ شخصَ رئيسِ الوزراء نتنياهو. تحاصره قضايا قد 
تعرّضه لمحاسبة قانونية، من المقدر أن تفقده مكانته السياسية. وقد أظهرت نتائج الانتخابات الإسرائيلية هشاشة وضعه، وأن سمعته السياسية التي بناها طوال سنوات حكمه الطويلة قد تنهي مستقبله بفضيحة مجلجلة. عليه أن يسعى حثيثاً إلى تعزيز موقعه السياسي، ونفوذه داخل إسرائيل، بأقوال صادقة وأفعال حقيقية ملموسة. وفي الخارج، ليس له من سند سوى الحليف الأميركي. وهو يدرك قوة اللوبي اليهودي الأميركي، كما يستوعب جيداً دور ذلك اللوبي في أيّ انتخاباتٍ رئاسية في الولايات المتحدة. بقيت أشهر قليلة لانتخاباتٍ رئاسية يلعب فيها المال واليهود دوراً مؤثراً. لا أحد يتكهّن بأن فرص ترامب عبر تلك الانتخابات ستكون كافية ليربح فترة رئاسية ثانية.
(6)
في تفرّده بإدارة البيت الأبيض بأسلوبٍ مثيرٍ للجدل، ومفارق كلّ أساليب الرئاسات الأميركية السابقة، باتباع سياسات داخلية وخارجية أدت إلى شروخ عميقة في المجتمع الأميركي، وبلبلة في المجتمع الدولي. جاء يرفع شعاراً انعزالياً: "أميركا أولا"، قصد به الابتعاد عن مبادئ التعاون الدولي الداعية إلى التصدّي برصانة للتحديات التي تواجه العالم والبشرية، فنجده يتنصّل من دعم "اليونسكو" ومن اتفاقيات المناخ والبيئة والهجرة ونزع السلاح. بات السلم والأمن في نصوص ميثاق الأمم المتحدة أمراً يخصّ المنظمة الدولية، وليس عنده لها سوى لسان مجاملة، وظهور شكلي في منابر الأمم المتحدة. يعالج قضية الانتشار النووي مع إيران من دون أن يلتفت إلى دور الدبلوماسية الجماعية. تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيرى خروجها تأكيداً لفشل تكتلات التعاون الدولي، فيهلل لانتصار بوريس جونسون برئاسة حكومة بريطانيا، وكأنه سيدخل بريطانيا إلى الفردوس، بعيداً عن الاتحاد الأوروبي.
(7)
لا يقف ترامب عند تلك المحطة، لكنه يبادر، في توقيت متزامن مع محاولات عزله المجهضة، ليرمي قنبلة سمّاها "صفقة القرن"، متجاهلاً كلّ تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ومتجاوزاً كلّ أدبيات التفاوض والاتفاقيات بين أطراف الصراع، ليعزّز صداقته لإسرائيل، وعينهُ على الصراع الذي سيحتدم في الانتخابات الرئاسية المقبلة. يأمل في الحصول على ثمنٍ يتمثل في مساندة اللوبي اليهودي له، لإخلاصه لهم في الوقوف بحسمٍ وبحزمٍ مع الموقف المنحاز لإسرائيل، على حساب البلدان العربية التي لا بوصلة حقيقية ترسم لها الطريق، بل يرى "جامعتهم العربية" ظاهرة صوتية لا أكثر.
(8)
الأجندات والمطلوبات لكلِّ الأطراف الثلاثة: الولايات المتحدة وإسرائيل والسودان تلاقت هذه 
الأيام، وبحسابات الحساسية الزمنية. .. من يريد أن يكسب انتخاباتٍ تمنحه فترة رئاسية ثانية في البيت الأبيض يدرك أن مفاتيحها بيد اللوبي اليهودي، والصهيوني تحديداً، فيقدم "صفقة القرن" لتصفية القضية الفلسطينية هدية لإسرائيل. يسعى كذلك إلى إسكات الظاهرة العربية الصوتية، فيعمد إلى تجاهل منظمة العرب الإقليمية، بل يشقّ تماسكها الهش عبر السودان: بلد لم يُعرف عنه في تاريخه اقتراباً من إسرائيل، أو حتى مجرّد نية للتطبيع معها، مثلما فعلت دول عربية معروفة.
(9)
دبلوماسية المقايضة الفجّة التي يجيدها ترامب دفعته إلى أن يعِد بشطب اسم السودان من القائمة الأميركية لداعمي الإرهاب، فيأخذ ثمناً من رئيس مجلس السيادة في السودان، يدفعه في عنتيبي لرئيس الوزراء الإسرائيلي. لن يهتم ترامب لما سيقوله عبد الفتاح البرهان للشعب السوداني الذي قام بثورة أزاحتْ نظاماً كالحاً. يمكنه أن يزعم للسودانيين بأن لقاءه نتنياهو سيعود عليهم بتحقيق "مصلحة عليا" للسودان، لكنه لن يفصح بأكثر من ذلك. الرئيس الأميركي الذي أدار لعبة المقايضة السياسية طالبه بأن لا يفصح بأكثر من ذلك، فهديته إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب، ليست كلها بيده، ففي منصة رئاسة الكونغرس تجلس سيدة تقود الكتلة البرلمانية المناوئة له، اسمها نانسي بيلوسي.