ألمانيان وسوري "حكاية مفترضة"

ألمانيان وسوري "حكاية مفترضة"

16 فبراير 2020

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -
تقول الحكاية المفترضة إن مواطناً ألمانياً قرأ قصة مترجمة لكاتب سوري، يتحدث فيها عن فتاة كانت تزور صديقاً لها في شقته بالطابق الثالث بإحدى المدن السورية الكبرى، حلب مثلاً. وحين انتهاء الزيارة، وقفت الفتاة وراء الباب، وشرعت تراقب الفضاء الخارجي من خلال العين السحرية.. وعندما تأكّدت أن المكان خال تماماً فتحت الباب بحذر، وخرجت بهدوء، وأغلقت الباب بما يكفل عدم إصدار أي صوت. واتضح بعد قليل أنها كانت تحمل حذاءها تحت إبطها، وتمشي حافيةً لئلا تنبه طقطقةُ كعب الحذاء على الأرض بعضَ الجيران، فيدفعهم الفضولُ للخروج ورؤيتها. وكانت تلف رأسها بملاءة سوداء كتيمة، تغطي كامل وجهها، فلا يظهر سوى أنفها.. وبقيت تطبق هذه الكمية الكبيرة من الاحتياطات في أثناء نزولها الدرج، ومغادرتها المدخلَ الخارجي، حتى أصبحت بعيدة بما يكفي لأن تشعر بالأمان. ووقتها ارتدت الحذاء، وتخلصت من الملاءة، وتابعت سيرها.. وأما الشاب فمكث في بيته، بعد مغادرة صديقته، نحو ساعة، وبمجرد ما حصل على قليل من الاطمئنان غادره إلى عمله. 
لاستكمال هذه الفرضية، نقول إن المواطن الألماني استغرب قيامَ بطلي القصة بهذه الإجراءات المعقدة، واعتقد أنهما على الأرجح مشتركان في سرقة، أو جريمة قتل، فتابع قراءة القصة المترجمة إلى آخرها، فلم يعثر على أية إشارة إلى وجود جريمة، أو جنحة، أو حتى شبهة، فتصاعدت دهشته. سألته زوجته عن سبب حيرته، فقال لها: تعالي معي. وذهبا معاً إلى زيارة جارهما اللاجئ السوري الذي كانا يساعدانه في تعلم اللغة الألمانية، وطلبا منه، بوصفه ابنَ تلك البيئة، توضيحاً لما ورد في القصة.
قال السوري: مؤكّد أن الشاب والفتاة قاما بهذه الاحتياطات خوفاً على عِرْض الفتاة.
ازدادت دهشة الألمانيين، وقالا بصوت واحد: (Eard؟) ماذا يعني؟
قال السوري: العرض هو الشرف. فضحك الألماني ضحكاً صافياً، وقال لزوجته: الآن فهمت المقصود. الإنسان السوري يحافظ على شرفه بأن تخبئ المرأة جسمها ووجهها كله، عدا الأنف، وتمشي في الشارع حافية حتى تصبح بعيدة عن منزل صديقها.
أدرك اللاجئ السوري أن هناك بوناً شاسعاً بين مفاهيم المجتمعين، السوري والألماني، هذا البونُ يحول دون فهم هذين الألمانيين الطيبين قضيةَ العرض والشرف. إنه يقيم هنا منذ سنوات، ويعرف أن الألمان لا يستخدمون هذه المصطلحات، ولا يأخذونها بأي اعتبار، فالزوجة الألمانية تنتظر حتى يذهب زوجها إلى عمله، ويصبح لديها وقت فراغ، حتى تأتي إلى غرفته لتعلمه اللغة الألمانية، وفي المساء تحكي لزوجها، بحضور الشاب، عن كلماتٍ تعلمها، ولكنه لفظها بطريقة مضحكة، فيضحك هو بدوره بصفاء.
قال اللاجئ السوري، وقد استطرف الحكاية التي سمعها من الألماني: على ذكر الشرف، هل سمعتم بالشاعر العربي الكبير المتنبي؟ قال الألماني: نعم. سمعت بالمتنبي والمعرّي ونزار قباني. قال اللاجئ السوري: الشاعر الكبير المتنبي يقول ما معناه إن الشرف لا يسلم من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدمُ.
لم يصدّق الألمانيان ما سمعاه. وانتقلا من حيز الاستطراف إلى حيز الاستفظاع، وصاحا بصوت واحد: دم؟! وقال الرجل الألماني: أعتقد أن كلمة "دم" وردت في سياق حديثك بالخطأ، فأنت ما تزال في المستوى اللغوي الأول. وأيدت المرأة كلام زوجها. ولكن السوري تمكّن من إفهامهما أن المتنبي كان يعني ما يقول، فنحن العرب مستعدّون لإراقة الدماء بسرعة، ولأقل سبب ممكن، وبالأخص لأجل الشرف. خذا القصة التي قرأتماها. لو لم تنجح الفتاة في تمويه زيارتها الفتى لقتلت. قالت الألمانية: قصدك يقتلونها هي والشاب بسبب الاعتقاد بأنهما ربما مارسا الحب. قال الشاب السوري: يقتلون الفتاة فقط. قال الألماني: لماذا؟ قال السوري وقد ارتفعت عصبيته: لا تقل لي "لماذا" وما هذا.. أخي نحن عقلنا هيك، أأنت أخو عقلنا؟ فظاعة.

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...