يوميات لبناني في ووهان

يوميات لبناني في ووهان

14 فبراير 2020

طاقم طبي لمستشفى مؤقت جديد في ووهان (5/2/2020/Getty)

+ الخط -
واحدٌ من أسباب اعتصام الطالب اللبناني الثلاثيني، أدهم السيد، بالبقاء في ووهان (وسط الصين)، المدينة التي يدرس فيها الدكتوراة في الاقتصاد الكمّي، والتي انتشر منها فيروس كورونا، أن بلدته في لبنان ليست أفضل حالا من ووهان، فقد خسر أقرباءَ وأصدقاءَ له نتيجة إصابتهم بالسرطان الناجم عن تلوثٍ كبيرٍ محيطٍ بها. لم يغادر الشاب، ولبنانيان آخران، المدينة التي تخضع حركة الناس فيها إلى قيودٍ مشدّدة، وتكاد تنعدم فيها تفاصيل الحياة الطبيعية، فباستثناء محلات بيع الأغذية والصيدليات والمراكز الصحية، ليس من مرافق تفتح أبوابها. وقد قال أدهم، في اتصال "العربي الجديد" معه، إن الجامعة التي يدرُس فيها تؤمّن لكل طالبٍ لا يرغب بالخروج ثلاث وجبات ساخنة يوميا. وأفاد بأنه غير خائف، طالما أنه يتّخذ الاحتياطات، ويتّبع إرشادات الوقاية من الإصابة بالفيروس الخطير، وهو يكتب يومياته ويسجّلها، ويوثق بعض مشاهداته بالتصوير في المدينة (11 مليون نسمة) التي تمتثل لحجرٍ صحي. وإذا تيسّر لهذا الشاب الذي أتيح له، قبل أيام، السفر على طائرة أردنيةٍ إلى عمّان ثم إلى بلده، ولم يفعل، بعضُ الكفاءة في الكتابة، واستطاع أن يصوغ يومياتٍ تلتقط اللافت في الخاص والعام، فتنكتب بحذاقة، وتتسلّح بمقادير من الثقافة في التاريخ والسياسة والعلوم، فالأرجح أنه سيُنجز نصّا عربيا مهمّا يمكن نشره كتابا سيُحرز مقروئيةً عالية، سيما وأن الكاتب هنا يخوض، بشجاعةٍ مؤكّدةٍ، تجربةً استثنائية.
ويوحي قول أدهم السيد ما قاله عن بلدته في لبنان بأن في حشاياه حنقا كثيرا على أحوال بلده، وهو محقّ ربما. وقبل أيام، قالت شابّةٌ لبنانيةٌ إنها كانت تضع القناع الواقي في مطار بيروت، وهي قادمةٌ من الصين، وطلبت من المسؤولين في المطار فحصَها للتأكّد من عدم إصابتها بفيروس كورونا، لكنها لم تجد مسؤولين صحّيين، ولا أجهزةً مختصةً بالفحص اللازم، واكتفت إدارة المطار بفحص حرارتها. وإذ يكتب أدهم، المقيم في ووهان منذ خمس سنوات، ما يكتب الآن من يومياتٍ، فإنه على ثقةٍ بأن جائحة كورونا ستنحسر وتغيب، في يوم قريبٍ أو بعيد، كما أمراضٌ سبقته، ذاعت في الأرض، وروّعت العالم بعض الوقت، إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير و"سارس" وجنون الدجاح وغيرها. وقد أعلنت الحكومة الصينية أن تفشّي "كورونا" سيتوقف في إبريل/ نيسان المقبل. وإذا صار هذا، مع بقاء نسبة المتوفّين ممن يُصابون بالمرض على قلّتها (2%)، فإنه سيتم تذكّر قول مدير منظمة الصحة العالمية، إن فيروس كورونا المستجدّ يشكّل تهديدا خطيرا جدّا جدّا للعالم، بشيءٍ من الاستهجان، أو الاستغراب أقلّه. وربما ستتم استعادة كلام صاحبنا، اللبناني أدهم السيد، إن أخبارا كثيرةً تم تناقلها من ووهان غير دقيقة. وأيضا سيعمل ناشطون في غير بلدٍ من أجل تكريمٍ عالميٍّ لطبيب العيون الصيني، لي وينليانغ، الذي كان لاشتباهه في إصابة سبعة مرضى في مستشفىً محلي بـ"مرضٍ غامض" عظيمُ الأثر في تنبيه السلطات الصينية إلى "أمرٍ جلل" في البلاد، قبل أن تأمرَه بالصمت، وقبل أن يموت مصابا بالمرض الغامض نفسه، في واحدةٍ من مفارقات "كورونا" وحوادثه التي يكون طيّبا من أدهم لو اكترث بما يعرف مثلها في ووهان وغيرها، ويأتي عليها في يومياته، المأمول أن يجدّ فيها ويجدّد. سيما وأنه ليس فقط إيمانُه بأن الأعمار بيد الله ما دفعه إلى عدم الرحيل عن المدينة الصينية التي اعتادتْه واعتادها، وإنما أيضا كثيرٌ من الإرادة الخاصة فيه، ومعرفته بأن سلالم أخرى إلى الموت، بعد العَرَض الأول للإصابة بالفيروس اللئيم، ارتفاع درجة الحرارة، بينها السعال وضيق التنفس والالتهاب الرئوي وغيرها، متّعه الله بالصحة وعافاه.
"كورونا"، إذن، فصلٌ جديدٌ في نزاع البشرية مع ما يستهدف الإنسان ليُميتَه، من أمراضٍ وأوبئةٍ وجراثيم وفيروسات، وفي أرشيفٍ طويل، اختبر فيه الإنسان قدرتَه على مغالبة جوائح شبيهةٍ بالتي يفعلها "كوفيد 19" (على ما سمّت منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا)، وأخرى غير شبيهة، أن 25 مليون نسمة أزهقَ أرواحَهم نوعٌ من الطاعون الفتّاك بين العامين 1346 و1350، والعياذ بالله. وفي هذه الغضون، تتراكم الأخبار عمّا صنعه الفيروس الصيني المستجدّ في العالم، وقف رحلاتٍ جويةٍ، وتوقّف عمليات استيراد وتصدير، وخساراتٌ في غير قطاع، وكذا رواج الخوف، فيما أدهم السيد لم يُغالبه الخوف، كما قال، وكما قد يكتب تفصيلا في يومياته.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.