وسام أوبرا دريسدن للسيسي .. أبعد من هفوة

وسام أوبرا دريسدن للسيسي .. أبعد من هفوة

12 فبراير 2020
+ الخط -
ما إن أخذ معلقو قنوات التلفزة المصريون يعتادون على لفظ اسم مدينة دريسدن الألمانية بشكل صحيح، وأخذوا ينفخون في واقعة منح رئيسهم، عبد الفتاح السيسي، وسام القدّيس سانت جورج، حتى تراجعت دار أوبرا هذه المدينة، وسحبت الوسام، لأنها فوجئت بأن السيسي يحمل من الآثام ما قد يلحق العار بها ويشوّه صورة الوسام. وهو ما حدث، حين رفض مكرَّمون آخرون تسلُّم أوسمتهم احتجاجاً على منح السيسي الوسام، وقاطع كثيرون مهرجان الدار، خوفاً من تلقي الانتقاد، والاتهام بموافقتهم على قرار الدار منحه الوسام. وبات هذا الأمر أشبه بفضيحةٍ ضجّت بها الصحافة والرأي العام الألماني أياما؛ إذ استغرب الجميع دوافع منحه الجائزة، وإسباغ صفة صانع السلام على أشد منتهكي حقوق الإنسان دمويةً في عهد مصر القريب. 
وكان مهرجان دار أوبرا دريسدن (زيمبر أوبر) قد أعلن، في 25 يناير/ كانون الثاني الماضي، عن منح السيسي وسام القديس جورج تقديراً لجهده في صنع السلام في شمال أفريقيا، وكونه يحمل الأمل في القارة الأفريقية كلها. وتسلم السيسي الوسام في اليوم التالي، ولكن الانتقادات سرعان ما ظهرت في ألمانيا على نطاق واسع، بسبب منح الوسام لدكتاتورٍ منقلب على الديمقراطية. بل عدّت منظمة العفو الدولية الخطوة تشجيعاً لمن "يدوس على حقوق الإنسان بالأقدام". ولذلك اضطرت إدارة المهرجان لسحب الوسام، بسبب الانتقادات التي تلقتها من الجمهور في ألمانيا وخارجها. وأعلن مدير دار الأوبرا، في 4 فبراير/ شباط الجاري، سحب الوسام من السيسي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أعلن نجوم وفنانون وشخصيات إعلامية وثقافية وغيرهم من 
المشاركين في الحفل رفضهم تلقي الوسام، احتجاجاً على منحه للسيسي، وأعلنوا مقاطعتهم الحفل الدار السنوي (عقد في 7 فبراير/ شباط الجاري). ومنهم مؤسس شركة ساب الألمانية المختصة بالبرامج الحاسوبية، وكذلك رفض المدير السابق لنادي بايرن ميونخ الرياضي الحضور. كما رفض أحد المغنين الألمان الحضور والمشاركة بالغناء ما لم تسحب الدار الوسام. ورفضت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) الحضور أيضاً. وبينما عبر نوابٌ وسياسيون ألمان عن سخطهم على هذا القرار، اتسعت الاحتجاجات عليه، فشهدت دريسدن مظاهرة نظَّمها نشطاء حقوق الإنسان، اعتبرت تكريم السيسي تدنّياً لقيمة الوسام الذي منحه، ويرمز إلى ثقافة انتصار الخير على الشر، بينما نشر السيسي ثقافة الخوف والموت في بلاده.
كيف يُكرَّس هذا الرجل صانعَ سلامٍ، وهو الذي يشن حرباً على المصريين، تبدَّت في سيناء دماراً للمنازل وقصفاً لأحياء سكنية وتجريفاً لأراضٍ زراعية وتشريداً لآلاف آمنين في بيوتهم وقراهم؟ وتبدَّت حربه في المناطق المصرية الأخرى اعتقالاً وتغييباً في السجون، وقتلاً في الشوارع، بسبب شبهة معارضة النظام. كما تبدَّت عبر دعمه الحرب الظالمة على اليمن منذ سنوات خمس، وعبر المشاركة في حصار دولة قطر منذ سنة 2017. كذلك عبر دعمه اللواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، في حربه على الشرعية في بلاده، وقصفه الأحياء السكنية والمطارات وقتله المدنيين والعُزَّل.
ولكن، يبرز سؤال مهم عن سبب جهل القائمين على دار الأوبرا تاريخ السيسي الحافل بالجرائم، بدءاً من تنفيذه الانقلاب على أول رئيس مصري منتخب، مروراً بسياسة تعزيز حكمه بالقمع والإفساد والأوهام، وصولاً إلى تكريسه هذا الحكم عبر تكريس ديكتاتوريته، وسعيه إلى تأبيدها من خلال ضرب مؤسسات البلاد المدنية. أما هذا الجهل فلا يمكن ردّه سوى إلى انسياق المؤسسات الرسمية في الدول الغربية مع سياسات حكوماتها التي عادة ما ترجِّح كفة المصالح على كفة المبادئ، في موضوع العلاقات مع بعض الدول، وخصوصاً منها الدول التي تتحكم فيها ديكتاتوريات دموية على شاكلة ديكتاتورية السيسي.
ولا عجب في هذا الأمر، فقد كانت ألمانيا من أولى الدول التي استقبلت السيسي، سنة 2015، 
بعد تنصيبه رئيساً، على الرغم من أنه استبق حكمه، إبّان كان وزيرا للدفاع، بمجزرة ميدان رابعة العدوية عشية الانقلاب الذي قاده، في 3 يوليو/ تموز 2013، وارتكاب قوات أمنه المجزرة التي راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى من المعتصمين المعارضين انقلابه. وكان استقبال المستشارة الألمانية، أنجيلا ميريكل، إياه بمثابة إسباغ الشرعية عليه، في وقتٍ كانت تشوب تلك الشرعية شوائب كثيرة، تقول بعدم شرعية حكمه، لأنه جاء عبر انقلاب عسكري على رئيس منتخبٍ ديمقراطياً.
وطرح كثيرون في الغرب التساؤل بشأن معايير منح المؤسسات الغربية أوسمةً وجوائز لحكام ومسؤولين في دول العالم الثالث، ومدى التزام هذه المؤسسات بالمعايير الأخلاقية لدى ترشيح أسماء المكرمين ومنحهم جوائزها. والمعايير الأخلاقية عادة ما تأخذ بالحسبان أهم ركيزة من الركائز التي تقوم عليها الدول الغربية، وهي مسألة حقوق الإنسان، والتي استخدمتها ذريعةً لدى شنِّها الحرب الباردة على دول أوروبا الشرقية والكتلة السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية. وتثير هذه الواقعة، ووقائع أخرى كثيرة من التي يتهاون فيها قادة الدول الغربية مع مسألة حقوق الإنسان لدى تعاملهم مع بعض الحكام في دول العالم الثالث، تثير المخاوف من أن ينعكس هذا التهاون على الداخل في الدول الغربية، وتبدأ حكومات هذه الدول بانتهاك حقوق الإنسان فيها، على غرار ما تفعله الديكتاتوريات في غير مكان خارج أوروبا وأميركا.
لا يمكن أن تكون واقعةُ منح السيسي وسام القديس جورج مجرّد هفوةٍ، برّرها القائمون على الدار بسبب ابتعادهم عن السياسة والتفاتهم إلى الثقافة، كما قالوا. ومع ذلك، هم لم يلاحظوا أن الثقافة السائدة في مصر هذه الأيام هي ثقافة الاعتقال والقتل، أما غيرها من أنواع الثقافة، كالشعر والغناء، فلا يجب أن يتخطى دورها موضوع تمجيد الرئيس والتطبيل للأوهام التي يبيعها بضاعةً يروِّجُها إعلامه.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.