نبش قبور السوريين .. التجانس ولو تحت التراب

نبش قبور السوريين .. التجانس ولو تحت التراب

12 فبراير 2020
+ الخط -
لم تحظَ فيديوهات نبش قبور السوريين في ريف إدلب والانتقام من الجثث والتنكيل فيها على أيدي مجرمي بشار الأسد، بشيء مما نالته في الإعلام الغربي خصوصاً، تسجيلات مشابهة مهرها تنظيما داعش والقاعدة بتوقيعهما. قبل ذلك، لم تحرّك مشاهد التعذيب والإعدام ولا وثائق قيصر من معتقلات البعث الأسدي أكثر من تأفف أوروبي وأميركي رسمي وشعبي، مرفق بنصائح بعدم المشاهدة، حرصاً على المشاعر والذوق العام، في مقابل هستيريا عامة تصيب الميديا العالمية في كل مرة كان الدواعش يصدّرون إلى العالم قرفهم بأحدث تقنيات التصوير والإخراج. 
لا يغامر المرء إن اجتهد واعتبر أن هوية المجرم أصبحت الأساس في الحكم على الفعل، لا الجرم نفسه. يكفي أن يسمّي المجرم نفسه علمانياً أو من أقلية دينية، لكي ينال أسباباً تخفيفية على فظاعات يرتكبها، بينما على المشتبه بانتمائه إلى عائلة الإسلام السياسي تحديداً أن يبقى دائم التحسس لرقبته وهو يحكم أو يعارض أو يمارس أي شأن عام، لأن درجة التسامح مع أي خطأ قد يرتكبه تدنو من الصفر بما أنه "إرهابي محتمل" دوماً. "حكمة" لا تفعل مشاهد تدمير قبور السوريين في إدلب إلا تأكيدها، وإن كانت قديمة قِدَم اكتشافات حافظ ورفعت الأسد اللذين لم تتم محاسبتهما بأي شكل على جريمة حماة في ثمانينيات القرن الماضي، وقد كرّت السبحة منذ ذلك الزمن لتغدو أشبه بعقيدة عابرة للأقطار العربية: فهمها انقلابيو مصر أيضاً فتصرفوا بمقتضاها في اعتصامي ميداني رابعة والنهضة، ولم يسمعوا إلا همسات غربية عن ضرورة تقليل عدد القتلى، وبعدهم استوعبها خليفة حفتر ليبني على الشيء مقتضاه ضد "الإرهاب الإسلامي" طبعاً، وقد صفّق له العالم ولا يزال، وكافأه بالسلاح وبالحماية السياسية والاعتراف به جنرالاً "تمكن مخاطبته".
تسجيلات مثل فيديو تدمير أضرحة السوريين في خان السبل بريف إدلب، ونبش عظامهم من تحت التراب، مصوّرة لكي يتم نشرها. لكن سوق النشر هذه المرة ليس داخلياً، ولا هدفه إشاعة الرعب في قلوب السوريين مما ينتظرهم في حال استمروا على الخروج عن قطيع سلطة الأسد، ذلك أنه لم يعد هناك فعلياً مناطق تتعدى الـ2% من مساحة سورية بيد مسلحين ضد النظام يجدر تأديبهم وترهيبهم بفيديوهات مماثلة. مَن تجدر مخاطبتهم فعلاً هم السوريون اللاجئون في الخارج ممن تخبرهم فيديوهات الرعب الأسدي أنه ليس عليهم التفكير في العودة، فهو زمن "تجانس المجتمع" مثلما أخبرنا بشار الأسد تعليقاً على أن ملايين السوريين صاروا مهجرين في الخارج منذ أعلن حرب الإبادة على "غير المتجانسين" منهم.
أما الخارج البعيد المستهدف من هذه الفيديوهات، فهو "المجتمع الدولي" عموماً. إنها من نوع الرسائل التي لا تكلف الحاكم الروسي لسورية شيئاً، بينما من شأنها توفير مردود سياسي وفير. فعلى "المجتمع الدولي" ذاك معرفة أن في سورية مَن "يمكن مخاطبته". هو ليس الجزار مفتول العضلات الذي ينبش القبر إثباتاً لولائه لـ"أبو يعرب" ما أو "كمال" معيّن، ولا قبله الوحش الذي يتلذذ في تعذيب المعتقلين، بل إن من يمكن توجيه الحديث إليه هو من أرسل الحفّار وضابط التعذيب، هو من أنزل أصحاب القبور إلى ما تحت التراب، أي الروسي الذي قتل السوريين، وهو لا يجد اليوم منافسة إلا من الإيراني الذي يخسر يومياً المزيد من النفوذ السياسي لمصلحة موسكو. من تجدر مخاطبته هو الروسي نفسه الذي كان أول من علم تلامذته في مليشيات الأسد كيف تنبش القبور عندما أشرف ضباط موسكو على سرقة جثث المجزرة الكيميائية في الغوطة عام 2013.
نبش قبور القتلى السوريين كان يحصل على بُعد مئات الأمتار على الأرجح من طريق التعزيزات العسكرية التي تنقلها تركيا إلى الشمال السوري الغربي، والذي بقيت منه أجزاء ضئيلة فقط خارجة عن سلطة ما سمّاها ميشال سورا "دولة التوحش". دولة تخشى المسّ بقبر واحد، اسمه ضريح سليمان شاه، يمنع نبشه ولكن أيضاً يُمنع أن يجاوره موتى سورية.
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري