دروس "كورونا"

دروس "كورونا"

12 فبراير 2020
+ الخط -
ما زال انتشار فيروس "كورونا" الجديد يثير هلعا كثيرا في العالم، بعدما أودى بحياة أكثر من ألف شخص في الصين فقط، وأصاب أكثر من 40 ألف آخرين، أغلبهم داخل الصين، لكن عدواه انتقلت إلى أكثر من 24 دولة. وبغض النظر عن الجانب المأساوي لمثل هذه الكوارث الإنسانية، لأن وباء "كورونا" في طريقة إلى أن يصبح كذلك، فإن العالم يتعلّم من إدارتها دروسا مهمة للتاريخ وللمستقبل، كي لا تتكرّر الأخطاء نفسها. 
وفي البداية، لا بد من الإشادة بالتعاطي الإيجابي الصيني مع الكارثة، فقد أظهرت لنا هذه المحنة شعبا متقدّما ومتطوّرا، وفي الوقت نفسه، منضبطا ومتلاحما فيما بينه، كما كشفت لنا عن قوة اقتصادية هائلة، ومدن ضخمة وإمكانات مادية كبيرة تم توظيفها لمواجهة الداء. ولكن مقابل هذا الأداء الكبير، والصورة الإيجابية التي ظهرت بها الصين، لن تمرّ المحنة الحالية من دون أن تعلمنا دروسا كثيرة للاستفادة منها مستقبلا.
أول هذه الدروس ضرورة تواضع الدول مهما بلغت عظمتها الاقتصادية وقوتها العسكرية، لأن فيروسا لا يكاد يُرى إلا من خلال المجهر المختبري كان قادرا على تمريغ سمعة ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، تمثل وحدها 20% من الاقتصاد العالمي، فالصين، على الرغم من قوة اقتصادها الهائلة وغناها الفاحش فشلت في احتواء فيروس مجهول، وعجزت حتى في تحقيق اكتفائها الذاتي من الأقنعة الصغيرة الواقية منه. وقد رأينا كيف اضطرّت القيادة الصينية، في النهاية، إلى الإذعان أمام الأمر الواقع، واستدعاء خبراء منظمة الصحة العالمية، ودعوة الخبراء الأجانب لمساعدتها على محاربة هذا الداء الفتاك، فالقوة الاقتصادية الهائلة والتقدم التكنولوجي الكبير والترسانة العسكرية الضخمة وترليونات الدولارات التي تزخر بها خزائن الدولة الصينية، كلها انهزمت أمام فيروس مجهول ما زال يستعصي أمام كل دواء. وتبقى الحقيقة أنه لا يزال يتعين على الصينيين أن يتعلموا من الدول الأخرى الأكثر تقدّماً وخبرة منهم، لأن مجال البحث العلمي شاسع لا يمكن حدّه أو الإمساك بناصيته، ويحتاجون إلى استيراد أبسط حاجياتهم من الخارج، مهما قل شأنها وضعف ثمنها، ولو كانت أقنعة ورقية بسيطة تستورد منها اليوم الصين، بكل عظمتها الاقتصادية، ملايين القطع من دول صغيرة، فالصين التي أبهرت العالم ببناء مستشفى كبير ومتطوّر في ظرف زمني قياسي هي نفسها من استنجدت بدول العالم لمدّها بأقنعة ورقية بسيطة!
الدرس الثاني الذي على المسؤولين التحلّي بما يمليه عليهم هو طريقة التواصل الناجعة والسريعة 
في حالات وقوع كوارث كبيرة، فعلى الرغم من تحسّن أدائهم في هذا المجال، مقارنة مع تجربتهم السابقة مع فيروس "سارس" عام 2003، إلا أنه يؤخذ عليهم التأخر نسبيا في التنبيه إلى الخطر، إذ لم يكشفوا عن خطورته إلا بعد أن تفشّى الفيروس، ولم يعد ممكنا التستر عليه، فالشفافية، بوصفها قيمة، ما زالت مفقودة في قاموس سياسة التواصل الرسمي الصيني، في زمن تحوّل فيه العالم إلى قرية صغيرة، بفضل التقدم التقني الهائل في وسائل التواصل. وما زال هناك من يشكّك في أن الصينيين يتسترون على الأعداد الحقيقية لضحايا هذا الفيروس، لأن تعامل الصينيين السابق مع فيروس سارس هزّ الثقة في كل ما يصدر عن المسؤولين الصينيين، ويغذّيها التعتيم الإعلامي الذي تمارسه على وسائل الإعلام، فكل الصور المتعلقة بهذا الوباء الآتية من الصين هي التي تَسمح بها السلطات الصينية، فيما لم يسمح لأي وسيلة إعلام أجنبية بزيارة المستشفيات التي تؤوي المصابين، وعددهم يقدّر بعشرات الآلاف، أو زيارة مناطق الحجر الطبي التي يحتجز داخلها الملايين.
الدرس الثالث مرتبط بسوء الإدارة البيروقراطية، وانعدام الشفافية، عندما حاولت الدولة الصينية التستر على خطورة تفشّى الداء في بداية اكتشافه. لأنه عندما نبّه الطبيب الصيني الذي اكتشف الفيروس إلى خطورته تم اعتقاله ومعاقبته، حتى توفي في سريره بالداء نفسه الذي حذر من خطورته. ولو كتبت له الحياة، لشهدنا محاكمته بتهمة "المسّ بالأمن القومي الصيني". أما المسؤول أو الموظف الذي حاول كتم أنفاس الطبيب، قبل أن يفتك به الداء الذي اكتشفه، فلن نسمع قط عن معاقبته أو محاكمته. وقد آن للصينيين أن يتعلموا الكثير من سوء إدارتهم الأزمات، لأن الأخطاء الإدارية تصبح فيما بعد كارثية أكثر فتكا من الداء نفسه، وليس أقلها أنها ستهزّ الشعور بالثقة ببلدهم، وبكل ما يصدر عنها في العالم.
ويبقى الدرس الأخير الذي يمكن تعلمه من هذه المحنة أنها دقت ناقوس الخطر تجاه الأخطار التي تتهدّد الوجود البشري على الأرض، فعلى الرغم من كل التقدّم الذي حققته البشرية، يقف هذا 
التقدم عاجزا أمام فيروسات صغيرة، لكنها فتاكة. وهو ما يستدعي من الدول التفكير في خطط طوارئ دولية للاستجابة السريعة والفعالة عند وقوع كوارث أو تفشّي أوبئة خطيرة. قد يتجاوز العالم هذه الأزمة هذه المرة، على الرغم من كل ما شاب إدارتها في البداية من اختلالات، لكنها أصابت العالم بالخوف من المستقبل وما يحمله للبشرية من مفاجآت غير سارة، فما هو مطلوب اليوم هو تعاون دولي أكبر في مجال محاربة الكوارث، خصوصا في حالة الكوارث الوبائية التي تنتقل عبر البشر.
كان يقال مجازا "عندما تعطس الصين .. يُصاب العالم كله بالزكام"، للدلالة على قوة الاقتصاد الصيني. وقد أصبح هذا المثل واقعيا، لكن بطريقة مأساوية، لأن الزكام الصيني اليوم أصبح قاتلا ومروّعا، وفي هذا درس آخر ينبهنا إلى مدى هشاشة وضعف الكيان البشري الذي يبقى السبب الأول والأخير في كثير مما يتعرّض له الكون من أوبئة وكوارث. وهذا درس لنا جميعا للرأفة بأنفسنا، وبالكون الذي نسكنه.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).