السيسي وأوبرا ألمانية.. أي دروس؟

السيسي وأوبرا ألمانية.. أي دروس؟

11 فبراير 2020
+ الخط -
يستثير حال إعلاميين عرب، وبعضُهم على شيءٍ من الثقافة، الإشفاق، وقد خرسوا تماما، في مواقع إلكترونيةٍ وصحفٍ يديرونها، أو ينشرون فيها أفكارهم في "التنوير" والديمقراطية، وفي هجاء الإسلاميين، بشأن واقعةٍ، ثقافيةٍ وسياسيةٍ، ثقيلة القيمة، غزيرة المغازي والمعاني، ضجّت بأخبارها، أخيرا، وسائط إعلامٍ عديدةٍ في الشرق والغرب، موجزها أن دار أوبرا في مدينة دريسدن الألمانية منحت وساما رفيعا للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بوصفه "رجل الأمل في أفريقيا"، وتسلّمه في القاهرة. وبعد موجة غضبٍ ساخطةٍ على هذا التكريم غير المستحق، في ألمانيا وخارجها، نشط فيها حقوقيون ونجومٌ وسياسيون وإعلاميون ورياضيون، وكذا منظماتٌ وازنةٌ، منها "العفو الدولية"، اضطرّت إدارة الأوبرا إلى الاعتذار عن فعلتها، واعتبرتها خطأ كان يجب أن لا يحدث، وأعلنت سحبَها تكريمَها السيسي بالوسام الذي يرمز إلى غلبة الخير الشر. وعلى الرغم من إجرائها هذا، بما يمثله من إهانةٍ معلنةٍ لشخص الرئيس المصري، إلا أن منظماتٍ وشخصياتٍ ليست قليلةً امتنعت عن حضور حفل تكريم من منحوا أوسمة دار الأوبرا، يوم الجمعة الماضي، وهو الحفل الذي تمّت تعديلاتٌ على ما كان مقرّرا فيه، والذي رفع ناشطون، في خارج قاعته، لافتاتٍ تندّد بالسيسي، بوصفه يسجن أصحاب الرأي الآخر، ويخنق حريات التعبير، في بلده.
حزمةٌ من الدروس توفّرها هذه الحادثة، يحسُن أن نتملّى، نحن العرب، فيها. أحدُها أن للقوى المدنية وللفاعليات العامة في المجتمعات التي تنعم بنظمٍ ديمقراطيةٍ وزنا ضاغطا وفاعلا يجعلها صاحبة أثر وتأثير في غير شأن. ومن ذلك ليس أمرا في الوسع احتماله، ويمكن أن يمرّره أهالي ولاية سكسونيا، تكريم مهرجان لدار أوبرا في دريسدن، عاصمة ولايتهم، رجلا يدوس على حقوق الإنسان، بحسب تعريف منظمة العفو الدولية في الولاية نفسِها عبد الفتاح السيسي، واعتبرته مسؤولا عن التعذيب والتعسّف والاعتقالات في مصر، وقد جهرت بأنها لم تفهم إطلاقا قرار الأوبرا ذاك. كما أن عمدة دريسدن طالب دار الأوبرا بإيضاح معاييرها في ما فعلت. واعتبر نائبٌ في البرلمان من المدينة ما فعلت "إهانةً لجميع منتقدي نظام السيسي السلميين".
ولافتٌ أن الاعتراضات الساخطة على الخطأ المريع الذي اقترفته إدارة الأوبرا لم تقتصر على ناشطين وحقوقيين وسياسيين، وإنما شارك فيها أيضا مثقفون وفنانون ورياضيون ومشتغلون بالتكنولوجيات، ما يفيد بأن السمعة السيئة التي يحوزها السيسي مؤكّدة، ومعلومةٌ لدى مختلف قطاعات المجتمعات الغربية، إذا ما أمكن قياس الواقعة الألمانية هذه على غير مجتمعٍ في غير بلد أوروبي. وقد جاء في الأخبار أن رئيس دار الأوبرا أعلن سحب وسام القدّيس جورج من السيسي بعد اجتماعه مع مغنٍّ إيطالي، ناشط في حقوق الإنسان. وإلى عدّة بياناتٍ جماعيةٍ اعتبرت تقدير السيسي "عارا"، ظلت مواقف غاضبين غير قليلين على حالها، بعد سحب التكريم (كيف سيُستعاد الوسام من السيسي؟). ومن ذلك أن مذيعة أخبار في التلفزيون الألماني، كان مقرّرا أن تقدم حفل السابع من فبراير/ شباط الحالي، امتنعت عن ذلك، وكذلك فعلت مذيعةٌ اختيرت بديلة. كما أن الملياردير الألماني، مؤسّس شركة ساب الألمانية للبرامج الحاسوبية، ديتمار هوب، رفض تكريمه في الحفل، وامتنع عن الحضور، وأعرب عن صدمته من تقدير عبد الفتاح السيسي، وإنْ جرى التراجع عنه. وهو الموقف نفسُه الذي أعلنه المدير السابق لنادي بايرن ميونخ، فقد رفض حضور الحفل أيضا.
أما في بلادنا العربية الزاهرة، فما زال بين ظهرانينا مدّعو تنويرٍ وتحديث، وأصحابُ صوت عالٍ من أجل "تجديد الخطاب الديني"، لا يستحون من مدح الطغاة والفاشلين، من قماشة عبد الفتاح السيسي، أو الصمت عن فداحة مسؤوليتهم عن تمويتٍ في السجون، وعن اعتقالات، وإزهاق أرواح، وتأميم المجال العام، وخنق الحريات. وقع هؤلاء في حيص بيص، لمّا تكرّم السيسي بوسامٍ ألمانيٍّ رفيع، ثم تم التراجع عن التكريم. آثروا الصّمم والعمى والخرس، فيما الذين في ضفةٍ أخرى، من أهل التنوير الحقيقي، ومن يناهضون كل استبداد، أفادوا كثيرا من حادثة أوبرا دريسدن، ومن مثقفين وإعلاميين جهروا بالحق والحقيقة، وأهانوا السيسي بما يستحق،.. ومشايعيه أيضا.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".