محنة الأخلاق والسياسة في تونس

محنة الأخلاق والسياسة في تونس

02 فبراير 2020
+ الخط -
يتعثّر الوزير التونسي السابق، إلياس الفخفاخ، في تشكيل حكومته، وقد تم تكليفه بذلك حسب مقتضيات الدستور التونسي، بعد أن أسقط البرلمان، في سابقة هي الأولى من نوعها، حكومة الحبيب الجملي الذي رشحته حركة النهضة. لم يبق للرجل سوى أسبوعين لإنجاز ذلك، وإلا ذهبت تونس إلى انتخابات سابقة لأوانها. وقد لوّح حزبا النهضة وقلب تونس بأنهما مستعدّان لذلك. بل دفعت "النهضة" بمشروع تنقيح القانون الانتخابي عبر تعديل ينص على عتبة 5%. لو حصل ذلك، ستحكم "النهضة" أو أي حزب فائز بأغلبية مريحة، تعفيها مشقة تحالفات هجينة ومكلفة، قد تصل إلى حد الابتزاز والعبث، كما عوين في الأشهر الثلاثة التي تلت انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
لا يعود هذا الإخفاق في تشكيل الحكومات إلى طبيعة القانون الانتخابي، ولا إلى مواصفات من يكلف بهذه المهمة من الأحزاب الفائزة أو خارجها فحسب، بل إلى أزمة الثقة المستفحلة، وترهل الأخلاق السياسية التي شكلت بعدا محدّدا في الثقافة والممارسة السياسيتين بعد الثورة.
تحوّلت الثقة التي تبدّدت بشكل مريع إلى حديقة خلفية لما يحدث حاليا بين الفرقاء السياسيين، وقد وصل الأمر إلى عبثٍ سياسيٍّ نفّر الناس من السياسة. تتالت على لسان الزعيم الواحد تصريحاتٌ صاخبةٌ وقطعية، ينقضها تماما بعد أيام قليلة. تتشكل تحالفات لتنفضّ لاحقا. يتحوّل الأعداء إلى أصدقاء، ويغدو الأصدقاء أعداء في اليوم نفسه. لقد رأينا كيف تحوّلت الصداقة المتينة مثلا بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي (رئيس مجلس النواب) إلى جفاء صامت، وكيف تراجع الغنوشي عن وعودٍ قطعها، حين التزم صراحة بعدم الاقتراب من حزب الفساد (يقصد "قلب تونس")، وها هو الآن مستعد للذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها، لو لم يكن معه شريكا في قاطرة الحكومة المقبلة. للسياسة مبرّراتها وللضرورة أحكام، ولكن عموم الناس يظلون غير قادرين على فهم هذه التبدلات السريعة، والأرجح أنهم لم يعودوا واثقين مما يقوله السياسيون، أو يأتونه.
تحتاج السياسة حتى تصبح حقلا محفزا على خدمة الصالح العام إلى نسيج قيمي وأخلاقي كثيف، 
يوجّه سلوكات الفاعلين ويشدّها إلى غايات نبيلة، فالقوانين تظل، على الرغم من ضرورتها، لعقلنة الحياة السياسية وصونها، غير كافية، وذلك ما يستوجب الالتزام بالشروط والمعايير الأخلاقية التي ينتظم وفقها العمل السياسي، ويتجاوب بمقتضاها مع الوعي المشترك، والقناعات الراسخة لدى عموم فئات التونسيين الذين يعون، بحسّهم المشترك، أنه في افتقاد القاعدة الأخلاقية للسلوك السياسي، يؤسّس الفاعلون (أحزاب، قيادات، زعامات ..) مواقفهم على المصلحة والغنيمة والمنافع المتبادلة والمواقع المتغيرة. وهم على هذا النحو يفاقمون معضلة الشك، ما يجعل انتظاراتهم غير مفهومة، أو حتى غير متوقعة، فالالتزام الأخلاقي في السياسة، كما في غيرها من مجالات الحياة الاجتماعية، يمنح أفعال السياسيين أقدارا واسعة من الانسجام والاتساق، ما يجعل المعايير والقواعد الأخلاقية تصبح ناظمةً للأفعال والسلوكات والمواقف. لقد بدأ التونسيون يضيقون ذرعا بسلوكات قادتهم وزعمائهم السياسيين، عندما يكتشفون أن تصريحاتهم تلك لا تنسجم مع المقتضيات الأخلاقية المتفق حولها عموما، على غرار الكذب والشتيمة والنميمة وهتك الأعراض.. إلخ، أو عندما يرون أيضا أن هؤلاء السياسيين يأتون خلاف ما يدعون إليه. لقد كشف الإعلام أشكالا متعدّدة من الفساد السياسي والأخلاقي الذي أتاه بعضهم. ويزداد ريبهم حينما يشاهدون أنهم يكيلون بمكيالين في الحدث نفسه الواقع محاباة لبعضهم، واستعداء آخرين.
تؤكد هذا المناخ الذي عمّق أزمة الثقة استطلاعات الرأي العام التي أصبح التونسيون يقبلون عليها، إذ كشفت توجهات خطيرة توضح ازدراء القياديين السياسيين التونسيين الذين يغلّبون، حسب رأيهم، مصالحهم الشخصية أو الحزبية على المصالحة العامة للبلاد. ويميلون إلى إجلاء من أعلى من شأن تلك المصلحة وتنكر لمصلحته الخاصة والضيقة. ويقدّم فوز الرئيس قيس سعيد، بقطع النظر عما كان وراء ذلك، صورة القائد الزاهد، الهائم بالمصلحة الوطنية، بعيدا عن المناكفات الضيقة.
ليس مهما مدى دقة تلك الصورة وجدواها السياسية أصلا، بل أن نعي أن مناخ انعدام الثقة، وترذيل الساسة والسياسيين، وإشاعة صورة السياسي الفاسد عموما، عوامل يمكن أن تغذي النزعات الشعبوية الخطيرة، وتنحرف بالديمقراطية.
الأخلاق ضرورية لصون الخير المشترك وحماية المصالحة الفضلى للوطن، وهي لا تتناقض مع القاعدة الصلبة للحياة السياسية، كما تبنيها وتصوغها الدساتير والقوانين والإجراءات المعمول بها في الديمقراطية الحديثة. والأرجح أن يذهب الفخفاخ إلى البحث عن أرضية قيمية مشتركة، تعيد رصيد الثقة بين الفرقاء، حتى يطمئنوا إلى بعضمهم بعضا، ويتفرغوا لخدمة حاجات الناس التي تعطّل تلبيتها كثيرا القدرة الشرائية، الأمن الاجتماعي وخدمات معاشهم اليومي: النقل، الصحة، التعليم ..
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.