لعم أردنية في مواجهة صفقة القرن

لعم أردنية في مواجهة صفقة القرن

02 فبراير 2020
+ الخط -
لم يقبل الأردن الرسمي، لا علانيةً ولا ضمنياً، الخطة الأميركية – الإسرائيلية المجاهرة بوأد حقوق الشعب الفلسطيني وتثبيت الهيمنة الصهيونية على المنطقة برمتها. لكن ذلك لا يكفي، فلا معنى للتمسك اللفظي "بالثوابت"، على أهميته، مع استمرار الأردن بتنفيذ اتفاقياتٍ هي، في جوهرها، تطبيق عملي لما تُسمى صفقة القرن، أو إعلان انتصار المشروع الصهيوني والاستسلام الرسمي للحكام العرب.
استراتيجياً، بدأ تنفيذ ربط الأردن العملي بالمشروع الصهيوني قبل مجيء الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أي منذ توقيع معاهدة وادي عربة مع إسرائيل عام 1994، عبر اتفاقيات تعاون أمنية واقتصادية. فقد تسارع ربط مفاصل مهمة للأردن، أهمها اتفاقية خط الغاز الإسرائيلي المنهوب من الفلسطينيين، ومشروع بوابة الأردن، وخط سكة الحديد الذي سيربط بين دولة الاحتلال ودول عربية عبر الأردن. أي إن رؤية " السلام الاقتصادي"، كما وردت معظم خطوطها في كتاب رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل شيمون بيريز، في قيد التنفيذ، ومنها ما هو على وشك الانتهاء من تحقيقه، وهي الحلقة الأهم في تنفيذ "صفقة القرن"، إذ إنها خرق كامل لسيادة الدول العربية وأمنها الاقتصادي، بشكل يرهن الأجيال العربية القادمة بتبعية قسرية للمخططات الصهيونية.
الأردن هو الحلقة الأهم في فرض المخطط الصهيوني الذي يُفرَض تحت مسمّيات عدة، للعرض 
القبيح الذي تباهى به كل من ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لذا، كان التركيز على فرض اتفاقيات استراتيجية، تجعل من أي غموض في الموقف السياسي الرسمي بمثابة قبول رسمي عملي، إذ لم يُوقَف أيٌّ من هذه المشاريع الخطيرة، فهي مقدّمة لشروطٍ لن ينفع في حينها الرفض، ولا حتى الاعتراض على تبعاتها، فما يتم فرضه هو حل الدولة الواحدة الصهيونية تحت مسمّى حول الدولتين، فبغضّ النظر عن رأي أيٍّ منا بحل الدولتين، فهو غير موجود في الخطة الصهيونية - الأميركية، وإنما الحديث هو عن كينونة ممزّقة، محاصرة بالمستوطنات والطرق الالتفافية التي يحرسها جيش الاحتلال، لا سيادة لها على أي أرض، ولا على السماء (بمعنى حركة الطيران)، ولا على ما تحت الأرض من مياه جوفية، أو ما يمكن أن يُستكشَف الآن أو بعد أجيال؛ كينونة مسلوخة عن محيطها العربي، خاضعة للسيادة والإجراءات العسكرية الإسرائيلية، أي ترسيم الوضع القائم وتشريعه بصفة دائمة وعملية، في مقدمة للإنهاء الكامل للهوية الوطنية الفلسطينية ومحو لتاريخ الشعب الفلسطيني وأرضه.
أي سكوت أردني عن ذلك، ومن دون موقف رسمي واضح، يترتب عليه قبول تداعيات الواقع الذي يُفرَض، بما في ذلك من تهجير قسري، سواء بارتكاب مجازر أو بحصار أمني واقتصادي خانق على الفلسطينيين تجبرهم على المغادرة، طلباً للعمل أو الأمان. وتستطيع إسرائيل، بكل بساطة، منع عودتهم بقوانين قديمة أو جديدة، فلا وجود لدولة فلسطينية أو حتى حكم ذاتي فلسطيني، وفقاً للمخطط الصهيوني، فالمشروع الأميركي – الإسرائيلي المعلن يجرّد الفلسطينيين من أي سيطرة على حياتهم ومصيرهم. وحينها، لن تفيد أي تصريحات أو أي لاءات ملكية ترفض التوطين أو الوطن البديل، فتصبح بلا فائدة منها، ولا معنى لها، فإسرائيل لا تفكر في إقامة وطن بديل للفلسطيني في الأردن، وإنما ستنفذ التهجير (الترانسفير)، وتريد من الأردن أن يتحمل تعبات هذا التهجير، حتى لو أدى ذلك إلى تفجير هويات فلسطيني أردني، أو حرب أهلية، فهذا لا يهمها، إذ لا يتعارض مع تنفيذ مخططها، فهي تريد من الجميع أن يرى في الفلسطينيين خطراً "أمنياً"، حتى إرهابياً على دول المنطقة وشعوبها. ولذا حرص ترامب على تقديم الخطة في إطار مكافحة الإرهاب، فلا وجود في المشروع لهوية فلسطينية أو تحقيق مصير للشعب الفلسطيني. وبذلك، من دون موقف رسمي واضح، يسهل تحقيق الشق الأردني من الخطة. ما يراد للأردن هو أن يكون حلقة وصل وممرّ، وشريكاً في حصار الفلسطينيين والتضييق عليهم، الأمر الذي لا يحتمل أي تردّد رسمي، فضبابية الرد هي تواطؤ عملي، فنحن لا نعرف ما يفكر فيه صانع القرار، فنحكم على المواقف العملية والتبعات على أرض الواقع، فلا يمكن أحداً أن يلوم المواطن الأردني، موالياً كان أو معارضاً، بأن يستنتج أن هناك قبولاً أردنياً رسمياً بالخطة الأميركية – الإسرائيلية، إلى أن يثبت العكس.
بعكس الرد الرسمي، جاء الرد الأردني الشعبي واضحاً وعالياً، فالمظاهرات في عمّان وباقي 
المدن الأردنية والمخيمات الفلسطينية، يوم الجمعة الماضي، كانت عميقةً في أحد أهم شعاراتها، وهو أن المشروع خطر على الأردن وعلى فلسطين، ولا رد غير الرفض الحاسم، فمشهد الإذلال في واشنطن كان جلياً، وكلمات ترامب ونتنياهو كانت وقحة في وضوحها، فتثبيت ضمّ القدس والكتل الاستيطانية الكبرى والمعزولة وغور الأردن، وعدم الاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، وكذلك المطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة، وغير ذلك مما اشتملت عليه الخطة، لم تُبق شيئاً للتكهنات أو الخيال أو لأي مفاوضات قادمة، سوى الإجراءات العملية للاستسلام.
اختلفت القوى السياسية في اختيار مكان المسيرات في عمّان، فاختار اليساريون والقوميون وجزء مهم من الحراك في المعارضة، وكذلك فئات أردنية غير حزبية، التظاهر أمام السفارة الأميركية، فواشنطن تتكفل، رسمياً ودون مواربة أو دبلوماسية، بتنفيذ المشروع الصهيوني. واختار الإسلاميون التحشيد أمام الجامع الحسيني في وسط عمّان، ما يوحي بأنه ليس هناك من تلاقٍ بعد بين التيارات المتعارضة، مع استمرار عدم الثقة، والمشهد مفتوح لمن سيبقى في الساحة لمواجهة المشروع أو انخراط الأردن فيه.
ويبدو أن القصر اختار غضّ النظر عن "تفاصيل المشروع"، أملاً في أن يُفضي غياب دعم دولي واضح لهذا المشروع الأميركي الإسرائيلي، وعزل ترامب أو إضعافه، إلى قتل "صفقة القرن". واكتفى صانع القرار في عمّان بحديث عن تأكيدات أميركية بالحفاظ على استقرار الأردن و"احترام الرعاية الهاشمية للمقدسات"، وإن كان لا قيمة لهذا الاحترام في ظل الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على القدس. وعليه، اختار صانع القرار أن لا يشهر لاءاته الرافضة للترانسفير والتوطين وضمّ القدس في وجه إعلان الصفقة. وليس عند الكاتبة معلومات إن الملك عبدالله الثاني أبلغ الإدارة الأميركية بقبول الصفقة، ولكن عدم إعلان موقف من بنود المخطط الأميركي، وإصرار الأردن على عدم وقف اتفاقيات استراتيجية مع إسرائيل، مثل خط الغاز وافتتاح منطقة صناعة وتجارة حرة في الجانب الأردني من غور الأردن، وعدم رفض إنشاء خط سكة حديدية إقليمية، ما يعني أنه عملياً اختار الضلوع في شق استراتيجي من المشروع. كما أن أصواتاً أضيفت إلى جوقة الأصوات والكتّاب الذين يبشّرون الأردنيين بأن لا يمكن الأردن وقف الصفقة، في تنظيرٍ للاستسلام، يثير الاشمئزاز، لكن كلام هؤلاء مؤشرٌ على أن اللعم الرسمية تقترب عملياً من نعم مدوية، شاء صانع القرار أو أبى.