ليبيا بين الصوملة والأفغنة

ليبيا بين الصوملة والأفغنة

10 يناير 2020
+ الخط -
لعل أقرب وصفٍ للمشهد الليبي الراهن، المضطرب أمنياً وسياسياً في الوضع الراهن، هو "الحالة السائلة"، إذ لا يمكن التكهن بمآلاته بسبب انتشار العنف في تخوم العاصمة طرابلس، نتيجة الوجود الأجنبي المتمثل في المليشيات العسكرية المتصارعة، فضلاً عن القصف الجوي من دول متحالفة أو معارضة هذا الطرف أو ذاك، وهذا مشهد يفاقم الأزمة الليبية منذ سبع سنوات، ويمهد لمرحلة كسر عظام بين الأطراف والفصائل المتحاربة، بين الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر والحكومة الليبية التي تحظى بشرعية دولية وإقليمية. 
ليست ليبيا حالة فريدة أو نموذجا ناشزا بين الدول العربية أو الإسلامية التي تقع في بؤر التوترات الداخلية والحروب الطاحنة المتنقلة هنا أو هناك، فقد سبقها الصومال بنحو عقدين، تعرّض خلالهما للتدخلات العسكرية الأجنبية، والحرب بالوكالة بين دول وقوى عظمى، فلم يكن كل ذلك الحراك الدولي حباً بسواد عيون الصوماليين، بل لتنفيذ مخططات أجنبية ومصالح إقليمية ودولية وعربية. وما إن استعصى الحل في البيئة الصومالية محلياً وإقليمياً، تُرك البلد في الفوضى الأمنية والاحتراب الداخلي، بعد تفكيك الدولة العسكرية بقيادة سياد بري، بتوقيعين، أميركي وإثيوبي. وإسلامياً حالة الحرب التي أحرقت أفغانستان خير مثال، إذ ما زال هذا البلد يئن من وطأة تداعيات الصراع الدولي عليه بين قطبين متصارعين، بقيادة روسيا الإتحادية والولايات المتحدة الأميركية أواخر القرن الماضي، بعد سلسلة انقلابات شهدتها أفغانستان منذ إطاحة الملك محمد ظاهر شاه آخر ملوك أفغانستان عام 1973، حتى وقعت في فخ التطرّف الأيديولوجي لتصبح دولةً تصدّر العنف إلى بقية العالم العربي.
ينطبق النموذجان، الصومالي والأفغاني، اليوم على الوضع الليبي، فالقتال بين أبناء الجلد الواحد والدم المشترك يقود إلى متاهاتٍ وكوارث ستخلف وراءها مصائب جمّة، بل ستتأثر بها الأجيال المقبلة، فلا توجد دولة ربحت بالحرب بقدر ما تفضي الاتفاقيات والمصالحات إلى نتائج إيجابية ملموسة على أرض الواقع، فالتجربة الراواندية والنهوض من ركام المجازر والخلافات الداخلية إلى دولةٍ تعيش في وئام واستقرار مثالٌ آخر يُحتذى به.
اللافت للنظر أن الجنرال المتقاعد خليفة حفتر مصر على السيطرة على العاصمة طرابلس، ولو 
ذبح الشعب الليبي كله، فيما حلمه بعيد المنال، ما استدعى تدخلاً من الإمارات، وتنفيذ قصفٍ جوّي على الكلية العسكرية في طرابلس، من أجل إطاحة الحكومة الشرعية، ودعم رجل عسكري يستنجد بالقومية العربية، تكاد أحلامه تتلاشى في خضم صراع دموي متأجّج بين حين وآخر.
ليس ثمّة شك في أن التدخلات، الدولية والعربية والتركية، تعقد المسألة الليبية برمتها، من دون أن تضع حلولاً لهذا النزاع بين الأشقاء الليبيين، فخطوة حكومة الوفاق الاستنجاد بتركيا تبدو شبيهةً بوضع الصومال عام 2006، عندما أطاحت مليشيات المحاكم الإسلامية أمراء الحرب، وهدّدت الحكومة الشرعية في مدينة بيدو (جنوب)، حيث استدعت الحكومة الصومالية الانتقالية القوات الإثيوبية لدعمها عسكرياً، وهذه احتلت مقديشو عامين، حتى انسحبت غصباً عنها عام 2009. ويتكرّر هذا المشهد اليوم في الحالة الليبية، وهو ما يبعث القلق إقليمياً وعربياً، فعلى الرغم من اشتداد جبهات القتال في طرابلس، يبقى الحل الليبي في المفاوضات، وليس في النزول إلى ساحات الموت. وتبقى المصالح الدولية والعربية، في مقدمتها النفط الليبي، تقسم عوائدها بين هذا الحليف أو ذاك الغريم، فيما يتشرّد فيه الليبي، ويُحرم من نفطه وخيرات بلده.
من حق الحكومة الشرعية الليبية أن تقاوم من أجل وجودها والحفاظ على شرعيتها، ولكن من حقها أيضاً أن تبحث عن حلولٍ وسط، لإقناع هذا الجنرال بالعدول عن الحرب، والبحث عن خياراتٍ أخرى غير اللجوء إلى آلة الموت التي تدك طرابلس بقذائفها. كما أن مصلحة خليفة حفتر تقتضي البحث عن طرق دبلوماسية بديلة غير الحرب الطاحنة، لوقف مغامراته العسكرية وتدمير العاصمة، حتى لا يصبح بمثابة ثور هائج في بيتٍ من فخّار، فلا يخرج من هذه الحرب منتصراً بقدر ما يستطيع الوصول إلى اتفاقٍ مع الحكومة الشرعية، بدل أن يستنجد بأطرافٍ عربية هنا وهناك، والتي تضع مصالحها أولاً قبل مصلحة ليبيا.
بالعودة إلى الصراعات العسكرية في الصومال، دار القتال حتى في بطن قبيلة واحدة، نتيجة الحرب بالوكالة، وكانت دول إقليمية وأطراف دولية تغذّي الصراع المرير، ولم يخرج الصوماليون، وخصوصا أمراء الحرب، منتشين بفرحة النصر على الخصم الآخر، بل أصبحت المعادلة صفرية للجميع، وفي جسد كل منهم طعنات غدر التدخل الأجنبي. ليس من الحكمة أن يستمر الصراع بين الأشقاء في ليبيا، حرب ستنتهي يوما ما، والخاسر ليبيا، أرضاً وشعباً.

دلالات

3F6C2AC1-09AD-4357-AA15-D946B74B0C95
3F6C2AC1-09AD-4357-AA15-D946B74B0C95
الشافعي أبتدون

كاتب وإعلامي وباحث صومالي

الشافعي أبتدون